‏إظهار الرسائل ذات التسميات سامح سعيد عبود. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سامح سعيد عبود. إظهار كافة الرسائل

السبت، 21 مايو 2011

لا سلطوية نجيب محفوظ - سامح سعيد عبود


لاسلطوية نجيب محفوظ
سامح سعيد عبود

كانت الحارة القاهرية طوال القرون الوسطى ، تشكل وحدة اجتماعية لها خصوصيتها التى جعلتها تتميز فيما تتميز به بنظام الفتونة ، والانقسام مابين الحرافيش والأعيان ، وقد بدء أفول هذا العالم مع بناء مصر الحديثة على يد محمد على و أبناءه ،حيث انتهت الفتونة كنظام اجتماعى مشروع إلى البلطجة الخارجة عن القانون الحديث ،وانتقل الأعيان للأحياء الحديثة فى القاهرة تاركين الحوارى للحرافيش ، و بلا شك فقد شهدت طفولة نجيب محفوظ فى أوائل القرن العشرين سماعه لذكريات وحكايات هذا العالم من كبار السن فضلا عن مشاهدته لبقايا هذا العالم وهو يحتضر ، ومن عالم الحارة القاهرية شديد الخصوصية ، استقى نجيب محفوظ روءاه الفلسفية للوجود الإنسانى كله فى عملين من أهم أعماله ، قرأتهم على التوالى منذ فترة قصيرة ، ولمحت ما لم يصرح به نجيب محفوظ نفسه ، هل هذا لفرط تواضعه وبساطته ؟، أم لأنه كشأن الغالبية العظمى من المصريين الذين تعودوا أمام آلة القهر العريقة و الهائلة أن لا يفصحوا عما يروه صراحة ، ففضل التعبير روائيا عما جال بعقله ؟ أم أن ما لمحته هو مجرد تفسير لم يقصده ؟.فما لمحته فى هذين العملين من رؤى سياسية واجتماعية هو أكثر ثورية و تقدما مما يستطيع أن يعبر عنه المثقفون والناس عموما فى بلادنا صراحة ، و التى لم يطل التحديث إلا قشورها و لم ينفذ للعمق شديد التخلف بعد . وبالرغم من ذلك فلم يمنع عدم الإفصاح من أن لا يتعرض للاغتيال ، برغم تسامحه إزاء مضطهديه الذى لا أرى مبررا له إلا الطيبة المفرطة أو الذكاء البالغ .
العمل الأول الذى منع من النشر ، وتمت محاولة إغتياله بسببه ، هو أولاد حارتنا ،وهنا يتخيل نجيب محفوظ العالم كله وقد تجسد فى حارة الجبلاوى ،أو قل أن حارة الجبلاوى هى صورة مصغرة للكون ، وأن تاريخ سكانها ما هو إلا تاريخ البشرية ، فالجبلاوى مؤسس الحارة والجد الأعظم لسكانها والمالك الفعلى لها ، وساكن البيت الكبير الذى هو بمثابة الجنة لساكنيه ، قد طرد إبنيه أدهم وإدريس من البيت ( الجنة ) لعصيانهما أوامره ، وحلت عليهما و على ذريتهما لعنته ، وعلى جانبى البيت بنيت الحارة ، وتم تعميرها بأحفاد المطرودين من الجنة و رحمة الجبلاوى ، و نشأت السلطة فى الحارة من مصدرين ، إدارة وقف الجبلاوى ، الذى يتحكم فيها ناظر الوقف ومن ثم يحوز الثروة ويستأثر بها وحده دون أهل الحارة ، و التى هى من حق كل أحفاد الجبلاوى سكان الحارة ، والذين بالرغم مما يملكوه من حقوق شرعية فى الوقف فهم محرمون من خيراته ، والفتوات الذين يحتكرون وسائل العنف ويتسلطون بها على سكان الحارة ، والذين يحمون فى نفس الوقت ناظر الوقف مقابل اقتسامهم الثروة معه ، وهم فى مقابل إدعاء حماية أهل الحارة وحفظ الأمن بها ، يحصلون على الأتاوات من السكان . ويرصد نجيب محفوظ محاولات سكان الحارة المحرومين من السلطة والمتشوقين للمساواة وللحرية ، للتحرر من هذا الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه .كسلسلة من المحاولات التى تنجح مؤقتا وبشكل جزئى ثم سرعان ما تعود الأحوال لسابق عهدها ،كأنما الشقاء والظلم والعبودية قد كتبوا على أهلها ،كل المحاولات كانت تهدف لتمتع السكان بوقف الجبلاوى أى بالثروة على قدم المساواة باعتبار أن جميع السكان هم أحفاد الواقف الجبلاوى ،وكل المحاولات كانت تعنى تحررهم من تسلط الفتوات عليهم ، إلا أن كل المحاولات كانت تنتهى بنظار جدد للوقف يستولون على خيراته ،وفتوات جدد يتسلطون عليهم ويستنزفونهم بالأتاوات ، وكل هذه المحاولات سردها نجيب محفوظ على خلفية قصص أنبياء الأديان السماوية الثلاثة ، ليسوا باعتبارهم أنبياء ، ولكن كقادة لمحاولات أهل الحارة للحصول على حقوقهم فى وقف جدهم الأكبر . حتى وفد للحارة عرفة الساحر الذى يرمز هنا للعلم ، ليشق طريقا جديدا يهدف لكل ما كانت تهدف إليه المحاولات السابقة و قادتها ، وإن كان عبر وسائل أخرى ، إلا أن الحال انتهى بعرفة رغم حسن نيته لأن يتحالف مع الناظر ليصفى الفتوات حيث مكن الناظر من احتكار ما اخترعه من وسيلة عنف لا قبل للفتوات بها ، وكان ذلك لأن الناظر ابتز عرفة بأن يفشى سره لأهل الحارة باعتباره قاتل الجبلاوى ، و حتى لا يفتكوا به ، قبل عرفة ما لم يكن فى حسبانه ، وانغمس مضطرا فى عالم الناظر الفاسد تماما ، وفى لحظة ما شبيه بتلك اللحظات القليلة التى اتصل فيها الجبلاوى باحفاده قادة الثورات ليكلفهم بقيادة كفاح سكان الحارة ، علم عرفة برضاء الجبلاوى عنه قبل أن يموت ، مما يعنى أنه اصبح لا يختلف عن أحفاد الجبلاوى الآخرين جبل ورفاعة وقاسم الذين قادوا أهل الحارة للتحرر من أوضاعهم ، وأصبح يملك ما ملكوه من شرعية قيادة أهل الحارة لتحقيق شروط الواقف ، وبناء على ذلك استيقظ ضميره مما أدى لأن يغتاله الناظر ، ويهرب مساعده ،وينتهى العمل بأن يعلمنا الكاتب أن حنش مساعد رفاعة ، والكثير من شبان الحارة يحاولون تحصيل العلم الذى تركه عرفة باعتباره طريقهم للتحرر من الناظر الذى اصبح محتكرا وحده كل مصادر السلطة .وكان الرهان الذى طرحه الكاتب هنا هو على الحيازة الجماعية على العلم من قبل أهل الحارة باعتباره مصدر السلطة والتحرر منها.و يفهم العلم هنا ليس بمعناه الضيق ، ولكنه بمعنى الوعى الجديد الذى لم تعهده الحارة من قبل.وعى قائم على البحث العلمى و العمل ، وليس انتظار المعجزة .
و فى نفس الطريق ، وعلى نحو أكثر نضجا ووضوحا وبعيدا عن اللبس الذى تسبب فيه هيكل العمل الأول الذى ربط تاريخ البشرية بتاريخ الأنبياء و الأديان ، خط نجيب محفوظ سفره الجليل وملحمته الرائعة الحرافيش ، فهنا أيضا تأريخ للحارة باعتبارها العالم ، وبدلا من البيت الكبير توجد التكية ،رمز الوصل ما بين الحارة أو العالم ، وبين الله أو المطلق ، وتبدأ القصة بالعثور إلى عاشور الناجى الكبير بباب التكية ، ذلك الذى اصبح المستبد العادل ، الفتوة الولى فى نفس الوقت ، وتتوالى قصص سلالته من الأحفاد (الفتوات والأعيان والحرافيش) ، لنتأكد من مدى خرافية حلم المستبد العادل ، ومدى حقيقة الحكمة القائلة بأن كل سلطة مفسدة وكل سلطة مطلقة فساد مطلق ، وليست السلطة فحسب هى المفسدة بل احتكار أيا من مصادرها الثروة أو العنف أو المعرفة فضلا عن الحرمان من أى منهم على السواء ، فالصراع والتنافس على احتكار وحيازة أى من هذه المصادر هو أصل الشرور فى هذا العالم كما رأينا ذلك فى تاريخ الحارة .تلك هى حكمة التاريخ البليغة التى يلخصها الكاتب فى عمله . و عبر تسع أجيال من سلالة الناجى ، ظل يحلم فيها الحرافيش بمستبد عادل ، فتوة وولى كعاشور الناجى الجد الكبير ، يعيد عهد العدل والكرامة ، وطالما تعلقوا ببعض الأشخاص إلا أنه سرعان ما خاب ظنهم فيهم ، فدائما ما نجح الأعيان فى إعادة الأوضاع كسابق عهدها ، وفى الجيل العاشر وبعد أن تدهورت السلالة كما لو كانت قد اصابتها اللعنة الأبدية ، وطردت بقاياها من الحارة كما خسرت محبة أهلها وتعلقهم بهم ، يأتى عاشور الناجى الحفيد الأخير ، ليقود الحرافيش فى ثورة ضد الأعيان والفتوات فى الحارة متخلصا منهم ، منبئا أهل الحارة أنه لن يكون فتوة عليهم لأنه لا حاجة لهم لفتوات بل يجب أن يكونوا جميعا فتوات أنفسهم ، وهنا وهنا فقط يخرج أهل التكية من المتصوفة الذين طالما تعلقت بهم قلوب أهل الحارة دون أن يشاهدوا أحد منهم من قبل ، ليحتفلوا مع أهل الحارة بحريتهم من التسلط والقمع والقهر والظلم والخرافة .
تكمن لاسلطوية نجيب محفوظ كما أظنها فى هذين العملين بكشفه الصريح لزيف أسطورة المستبد العادل ، بكشفه آليات السلطة ومصادرها وآثار احتكارها من قبل قلة من البشر ، وحرمان الأغلبية منها ،كاشفا عن أن التحرر الحقيقى لابد وأن يأتى من الجماهير نفسها برفضها أى تسلط عليها ، بأن يتساوى الجميع كمصدر للسلطة الحقيقية ،وذلك بأن يسيطر الجميع و على قدم المساواة على مصادر السلطة ،فهنا وهنا فقط يمكن تحقيق شروط وقف الجبلاوى و رضا أهل التكية ،و التى لم يفصح عنها نجيب محفوظ ،ولكن من الممكن أن نستنتج ما هى ، من معرفة متى حدث الرضا من المطلق الذى يرمز له الجبلاوى و أهل التكية ؟ ، ألم يكن يأتى من مجرد محاولة إقامة العدل والتحرر من القهر و التسلط .

الاثنين، 16 مايو 2011

النقابية الثورية



النقابية الثورية
ترجمة سامح سعيد عبود

1ـ النقابية الثورية تؤسس نفسها على أساس الانخراط فى الصراع الطبقى، وتهدف لتوحيد كل العمال فى منظمات اقتصادية نضالية هى النقابات الثورية، كى يناضلوا لتحريرأنفسهم من النير المزدوج للرأسمالية و الدولة ،وهدفها إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس الشيوعية التحررية عبر الفعل الثورى للطبقة العاملة، على إعتبار أن المنظمات الاقتصادية للبروليتاريا هى الوحيدة القادرة على تحقيق ذلك الهدف. النقابية الثورية تقدم نفسها للعمال باعتبار أهليتهم كمنتجى ومبدعى مجمل الثروة الاجتماعية، لتتأصل وتنمو النقابية الثورية خلال تنظيمهم ونضالهم المشترك فى معارضة ومواجهة الأحزاب العمالية الحديثة الشيوعية والاشتراكية الديمقراطية، والتى اتضح عجز برامجها عن إعادة التنظيم الاقتصادى للمجتمع لما يحقق مصالح العمال فى التحرر من نظام العمل المأجور أى الرأسمالية.
2 ـ النقابية الثورية عدو صلب لأى سيطرة اقتصادية أو اجتماعية من قبل الدولة أو الأفراد أو المؤسسات الرأسمالية، لكل من وسائل الإنتاج والخدمات والعنف والمعرفة، ومن ثم تهدف لالغائها، و ذلك بإنشاء تجمعات اقتصادية على أسس تعاونية و وحدات إدارية تدار بواسطة العمال فى المصانع والحقول ومحلات السكن، و تشكل فى مجموعها نظام اجتماعيا من المجالس الحرة التى لا تخضع لأى سلطة أو حزب سياسى أيما كان إلا سلطة أعضائها الجماعية. و تضع النقابية الثورية إعادة التنظيم الاقتصادى للمجتمع للانتاج كبديل لسياسات الدولة والأحزاب ، وتحل محل حكم الإنسان للإنسان،إدارة الأشياء. وبالتالى هدف النقابية الثورية ليس الاستيلاء على السلطة السياسية لكنه الغاء كل وظائف الدولة فى الحياة الاجتماعية. ومن ثم فإن النقابية الثورية ترى أنه باختفاء احتكار الملكية يجب أن يأتى اختفاء احتكار السلطة ، ولا يمكن أن يتأتى تحرير البشر عبر أى شكل من أشكال الدولة مهما كان مموها ، على العكس ستكون الدولة كما كانت من قبل خالقة لاحتكارات جديدة وامتيازات جديدة.
3 ـ النقابية الثورية لها وظيفتين :الانخراط فى الصراع الثورى اليومى من أجل التطوير الاقتصادى والاجتماعى والفكرى للطبقة العاملة داخل حدود المجتمع الراهن ، وتعليم الجماهير كى تكون مستعدة لإدارة عملية الانتاج على نحو مستقل ، و المساهمة حين يأتى الوقت فى الاستحواز على كل عناصر الحياة الاجتماعية. والنقابية الثورية لا تقبل أى نظام حكومى بسيط ،لأن مؤسسة النظام الاجتماعى التى تهدف إليها تؤسس حصريا على قرارات الطبقات المنتجة عبر منظماتهم المختلفة، والتى تستطيع عبر العمل العام لكل العمال اليدويين والذهنيين، وفى كل قسم من الصناعة مدار ذاتيا من العمال الحلول محل كل جهاز حكومى ، فكل مجموعة أو مصنع أو قسم صناعى يكون كل عضو متمتع بالحكم الذاتى فى وحدة اقتصادية أكبر ، والتى على نحو منتظم تدير الإنتاج والخدمات والعمليات المرتبطة بهما طبقا لمصالح المجتمع على أساس الأهداف المتفق عليها ، وعلى أسس تبادل الخدمات والمنافع .
4 ـ النقابية الثورية تعارض كل الاتجاهات التنظيمية الملهمة بمركزية الدولة و الكنيسة، لأنها فى رأيها لا تستطيع فقط سوى أن تخدم إطالة بقاء الدولة والسلطة ، و تكبت على نحو منظم روح المبادرة واستقلالية الفكر. فالمركزية تنظيم مصطنع يخضع ما يقال أنهم الطبقات الأدنى لهؤلاء الذين يدعون أنهم الأعلى ، والمركزية تترك كل شئون المجتمع فى يد قلة من الأفراد ، ليتحول الفرد إلى إنسان آلى يأتمر بإشارات تحكم و توجيهات تلك القلة المركزية. ففى التنظيم المركزى تخضع خيرات المجتمع لمصالح القلة ، والتماثل يحل محل التنوع ، والترويض يحل محل المسئولية الشخصية ، وبالتالى فالنقابية الثورية تؤسس نظرتها الاجتماعية على أساس التنظيم الاتحادى الشامل. الخ ، بشرط أن ينتظم من أسفل لأعلى لتوحيد كل القوى الاجتماعية فى النهاية للدفاع عن الأفكار و المصالح العامة.
5ـ النقابية الثورية ترفض كل أشكال النشاط البرلمانى ، و كل أشكال التعاون مع المؤسسات التشريعية ، لمعرفتها أنه حتى فى أكثر أنظمة الاقتراع حرية ، لا يمكن أن تتخفى التناقضات الواضحة فى قلب المجتمع الحالى ، ولأن النظام البرلمانى له هدف واحد فقط هو إضفاء خرافات الشرعية على الظلم الاجتماعى.
6 ـ النقابية الثورية ترفض كل الحدود السياسية و القومية المختلقة اعتباطيا، و تعلن أن ما يدعونها بالقومية ما هى إلا دين الدولة الحديثة ، لإخفاء تغطيتها للمصالح المادية للطبقات المالكة. والنقابية الثورية تقر فقط بأن التفاوتات الاقتصادية سواء أكانت إقليمية أو قومية هى التى تخلق التراتبية والامتيازات وكل أنواع المظالم ( باسم العرق والجنس و أى نوع من الاختلافات الزائفة أو الحقيقية بين البشر) ، والنقابية الثورية باسم روح التضامن تدعوا للحق فى الحكم الذاتى لكل المجموعات الاقتصادية.
7 ـ لأسباب متشابهة تناضل النقابية الثورية ضد كل أشكال العسكرية والحرب. والنقابية الثورية تدافع عن الدعاية المعادية للحرب ، و الداعية لتسريح كل الجيوش ، حيث تعتبرها فقط أدوات الثورة المضادة فى خدمة الرأسمالية من خلال العمال المجندين ، والتى خلال الثورة سوف يتم السيطرة عليها من خلال العمال و اتحاداتهم ، والتى يكون من مطالبهم الحظر والمقاطعة لكل المواد الأولية و المنتجات الضرورية للحرب باستثناء البلد التى يكون فيها العمال فى وسط الثورة الاجتماعية لكى يساعدوهم للدفاع عن الثورة ، ونهائيا فالنقابية الثورية تدافع عن الاضراب العام الوقائى كوسيلة فعالة لمعارضة الحرب والعسكرية.
8 ـ النقابية الثورية تقر بالاحتياج الملح لإنتاج لا يدمر البيئة ، ومن ثم يحاول التقليل من استخدام الموارد غير المتجددة ، والاستخدام كلما أمكن للبدائل المتجددة . وهى لا تسمح لنفسها بتجاهل أصل أزمة البيئة الراهنة فى كونها التعطش للربح ، فالإنتاج الرأسمالى يهدف دائما لتقليل التكاليف، للحصول على مكاسب أكثر لاستمرار فى البقاء ، ومن ثم فهو غير قادر على حماية البيئة. فمجمل أزمة الديون العالمية تفاقمت بسبب الميل لزراعة المحاصيل التجارية مما قد الحق الضرر بزراعة المحاصيل الأساسية ، هذه الحقيقة أدت لتدمير الغابات المدارية والاستوائية، والمجاعات ، والأمراض. فالنضال من أجل حماية كوكبنا والنضال من أجل تدمير الرأسمالية يجب أن يرتبطا ، أو فإن كلا منهما سيكون مصيرهما الفشل.
9 ـ النقابية الثورية تؤكد نفسها كداعمة لمنهج العمل المباشر،وتساعد وتشجع كل النضالات التى لا تتعارض مع أهدافها ، طرقها فى النضال تكون الاضرابات والمقاطعة..الخ. العمل المباشر يصل لخبرته الأعمق فى الاضراب العام ، والذى يكون من وجهة نظر النقابية الثورية استهلالا للثورة الاجتماعية.
10 ـ بينما النقابية الثورية تعارض كل أشكال العنف المنظم من قبل أى نوع من الحكومة ، فأنها موقنة من أنه سوف يكون هناك نزاع عنيف لأقصى درجة ، خلال الصراعات المصيرية بين الرأسمالية الراهنة والشيوعية الحرة القادمة. و بالتالى،إقرارها للعنف يكون صحيحا حيث العنف لابد و أن يستخدم كوسيلة دفاعية ضد الطرق العنيفة المستخدمة من قبل الطبقات الحاكمة خلال النضالات التى تمارسها الجماهير الثورية لمصادرة الآراضى ووسائل الإنتاج بينما هذه المصادرة تستطيع فقط أن تستمر و تأتى بالنجاح الكامل عبر التدخل المباشر للمنظمات الاقتصادية الثورية للعمال ، فالدفاع عن الثورة يجب أن يكون مهمة تلك المنظمات الاقتصادية وليس للهيئات العسكرية وشبه العسكرية المتطورة بالاستقلال والانفصال عنهم
11 ـ فقط فى المنظمات الاقتصادية والثورية للطبقة العاملة توجد القوى القادرة على تحريرها، والطاقة الخلاقة الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع على أسس الشيوعية التحررية.
12ـأسم المنظمة الدولية هو الرابطة الدولية للنضال والتضامن والتى توحد كل المنظمات الثورية النقابية فى العالم يطلق عليها رابطة العمال الدولية( ر ع د ).
13ـ أهداف وطموحات( ر ع د )
أ ـ تنظيم ونشر الصراع الثورى فى كل البلاد ،بهدف التدمير الفورى لكل الأنظمة السياسية والاقتصادية القائمة ، و إقامة الشيوعية التحررية.
ب ـ إعطاء المنظمات الاقتصادية النقابية قوميا و صناعيا ،الأساس لتقوية تلك المنظمات المحددة لمباشرة النضال، و لتكون مستعدة لتدمير الرأسمالية والدولة
ج ـ منع أى نفوذ للأحزاب السياسية فى المنظمات النقابية و التصميم على مكافحة أى محاولة من الأحزاب السياسية للسيطرة على تلك الاتحادات.
د ـ يمكن إقامة تحالفا ت مشروطة مع المنظمات الثورية والاتحادات البروليتارية الأخرى ، بهدف التخطيط والانخراط فى العمل الدولى العام لتحقيق مصالح الطبقة العاملة عندما تتطلبه الشروط و بما لا يتعارض مع أ و ب و ج وعبر طريق العمل المشترك ،إلا إن أى تحالفات لا يمكن أن تكون مع الأحزاب السياسية ، ولا مع المنظمات التى تقبل الدولة كمؤسسة للتنظيم الاجتماعى ، النقابية الثورية ترفض التعاون الطبقى ، و الذى يكون مميزا بالمشاركة فى اللجان المنظمة بالمشاركة مع مخططات الدولة( على سبيل المثال الانتخابات النقابية للجان المشاريع ) وبقبول الدعم الحكومى ،المدفوع لمحترفى النقابات، وغيرها من الممارسات الأخرى التى تتنافى و جوهر النقابية اللاسلطوية.
ه ـ فضح ومكافحة العنف العشوائى لكل الحكومات المكرس لقمع الثورة الاجتماعية ضد الثوريين.
و ـ دراسة كل المشكلات التى تهم عالم البروليتاريا من أجل تقوية وتطوير حركاتها، سواء فى بلد واحد أو عدة بلاد، والمساعدة على الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة فى الثورة وتحرير نفسها.
ز ـ ممارسة أنشطة المساعدة المتبادلة فى الصراعات الاقتصادية الهامة الجارية ،أو ممارسة الصراعات النقدية ضد الأعداء المكشوفين أو المختفيين للطبقة العاملة.
ر ـ توفير المساعدة المعنوية والمادية لكل حركات الطبقة العاملة، فى أى بلد تكون في لقيادة الصراع فى أيدى المنظمة الاقتصادية القومية للبروليتاريا. الأممية تتدخل فى شئون اتحاد كل بلد فقط عندما تكون منظمته المندمجة فى هذا البلد مطالبة بالتدخل ، أو عندما يكون الفرع منتهكا المبادىء العامة للأممية.

الأناركية عكس الفكر الماركسى اللينينى فى تنظيم المجتمع








الأناركية عكس الفكر الماركسى اللينينى فى تنظيم المجتمع
ليورانزو كمبوا إرفن
ترجمة : سامح سعيد عبود
تاريخيا ،هناك ثلاث أشكال رئيسية من الاشتراكية،الاشتراكية التحررية (الأناركية)،الاشتراكية السلطوية(الشيوعية الماركسية)،الاشتراكية الديمقراطية (الديمقراطية الاجتماعية الانتخابية) .اليسار السلطوى يردد صدى التصوير البورجوازى للأناركية كأيديولوجية للفوضى والعبث والجنون .لكن الأناركية وخاصة الأناركية الشيوعية ليس لديها و ما يجمعها وهذه الصورة . الزائفة و المصنوعة من قبل أعدائها أيديولوجيا الماركسيين اللينينين.
إنه من الصعب جدا على الماركسيين اللينينين تقديم نقد موضوعى ضد الأناركية الشيوعية بسبب طبيعتها التى تدك كل المزاعم الأساسية للماركسية اللينينية ، طالما ظلت الماركسية اللينينية تتمسك بكونها فلسفة الطبقة العاملة وأن البروليتاريا لا تستطيع أن تدين بتحريرها لأى أحد سوى للحزب الشيوعى ، فأنه يكون من الصعب الاستناد إليها والقول أن الطبقة العاملة حتى الآن ليست مستعدة لإعفائها من التسلط عليها، لينين أتى بفكرة الدولة الانتقالية، والتى ستذوى بعيدا بمرور الزمن، أو لتمضى بعد فترة "ديكتاتورية البروليتاريا" لماركس، الأناركيون كشفوا هذا الخط الأيديولوجى كثورة مضادة ، وكانحراف لانتزاع السلطة من يد الناس ، وبعد 75 عاما من الممارسة الماركسية اللينينية التى برهنت على صحة وجهة النظر تلك ، حيث رأينا جميعا ما تسمى بالدول الاشتراكية المؤسسة على مفاهيم الماركسية اللينينية و قد أنتجت فقط الدولة الستالينية البوليسية ،حيث العمال لا يملكون أى حقوق ، بينما تملكها الطبقة الحاكمة الجديدة من التكنوقراطيين وساسة الحزب الصاعدين ، ورأينا كيف استمرت التفاوتات الطبقية بين هؤلاء الذين ميزتهم الدولة و بين الجماهير المحرومة بخلقها الحرمان واسع النطاق بينهم ، و من ثم فقد دشنت صراع طبقى آخر بدلا من أن تلغى كل صراع طبقى كما سبق ووعدت .
لكن الماركسيين اللينينيين بدلا من توجيه انتقادات رئيسية للفكرة الأناركية ، فقد ركزوا هجماتهم ليس على مفهوم الأناركية بل على الرموز التاريخية للأناركية و بشكل خاص على باكونين (المعارض الأساسى لماركس فى الأممية الأولى). الأناركيون هم الثوريين الاجتماعيين الذين يهدفون إلى اللا دولتية ،اللا طبقية ، الاتحادات التعاونية الطوعية لمجتمعات لا مركزية مؤسسة على الملكية الاجتماعية ، الحرية الفردية ، والإدارة الذاتية المستقلة للحياة الاقتصادية والاجتماعية.
الأناركيون يختلفون عن الماركسيين اللينينيين فى كثير من القضايا ، و بشكل خاص فى البناء التنظيمى ، و هم يتميزون عن الاشتراكيين السلطويين فى ثلاث مفاهيم أولية ، هم يرفضون المفاهيم الماركسية اللينينية ، حول الحزب الطليعى ، المركزية الديمقراطية ، ديكتاتورية البروليتاريا ، و الأناركيون لديهم بدائل لكل هذه المفاهيم ، ولكن المشكلة هى أن معظم المنتمين لليسار (بما فيهم بعض الأناركيون) جاهلين بشكل كامل بالبدائل البنيوية الملموسة لتلك المفاهيم الماركسية وهى الجماعة الدعائية ، والديمقراطية المباشرة ، و المشتركات (الكوميونات )الجماهيرية.
البديل الأناركي للحزب الطليعى هو الجماعة الدعائية .
الجماعة الدعائية بشكل مجرد تتكون كاتحاد شيوعى أناركى بين أفراد و جماعات متقاربة فى عملها ورؤاها، و هى تقام على قواعد تنظيمية أو ضرورية فحسب ، وهى تعتمد على توافق إرادات و رغبات الأعضاء فى التعاون فيما بينهم وإلحاح الظروف الاجتماعية التى تفرض عليهم النضال سويا ، و الاتحاد الأناركى الثورى يقام بواسطة ممثلين عن جماعات دعائية متجانسه ، (أو الجماعة المتجانسة نفسها عند نموها لحد يسمح لها بالانقسام لجماعات دعائية فرعية ) .وفى كل الأحوال يتم الالتزام بمبدأ ضمان الحقوق و الامتيازات والمسئوليات التصويتية الكاملة لكل عضو .
الجماعة الدعائية واتحاداتها تضع كل من السياسات و خطط الأعمال المستقبلية و تؤدى وظائفها وفق هذا المبدأ ، أنها تربط بين كل من النظرية الشيوعية الأناركية والممارسة الاجتماعية . عقيدتها هى الانخراط فى الصراعات الطبقية و الاجتماعية من أجل نفى النظام الرأسمالى والسلطوى ، أنها تنتظم سواء فى التجمعات البشرية المختلفة أو فى أماكن العمل ، و هى فى النهاية جماعة ديمقراطية تخلو من أى رموز للسلطة مثل زعماء الحزب و اللجنة المركزية وخلافه.
و لأن الثورة لابد وأن تحدث على نطاق واسع يتجاوز نطاق عمل الجماعات واتحاداتها المحلية فأن العمليات التنسيقية بين هذه الجماعات واتحاداتها المحلية تصبح ضرورة ملحة ، و تشكيلها لا يمكن أن يكون فى طريق معاكس لمبادىء الأناركية ، فما يعارضه الأناركيون تحديدا هو التراتبية فى التنظيم ، سلطة القيادة المعرقلة للعمل ، و التى تكبح الدافع الخلاق للكتل المنخرطة فى العمل وتطبق بقرارتها البيروقراطية على رقابهم ، حيث يكون الأعضاء فى مثل هذه الجماعات التراتبية مجرد خدم وعبيد لقيادة الحزب ، لكن برغم أن الأناركيون يرفضون مثل هذه القيادة المركزية المتحكمة فى تابعيها ، فهم يقرون أن هناك بعض الناس يكونون أكثر خبرة أو أفصح أو أكثر مهارة من آخرين ، وهؤلاء الأشخاص لابد وأنهم سيلعبون أدوار القيادة فى العمل ، هؤلاء الأشخاص ليسوا رموز مقدسة للسلطة ، ويمكن ببساطة أن ينحوا عن مسئولياتهم حسب إرادة عضوية التنظيم ، كما يوجد هناك أيضا وعى بأهمية تداول المسئوليات بين الأعضاء بشكل متواتر لإكساب الآخرين المهارات المختلفة عبر ممارسة المسئوليات ، و بشكل خاص النساء والمنتمين للأقليات العرقية والثقافية فى المجتمع الذى تنشط فيه الجماعة الدعائية ، والذين لا يحصلون عادة على هذه الفرص بحكم انتماءاتهم والعادات والتقاليد والأعراف السائدة المحيطة بهم .
خبرة هؤلاء الأشخاص الذين يكونون عادة نشطاء محنكين أو مؤهلين على نحو أفضل من الغالبية فى لحظة ما تجعلهم يستطيعون المساعدة على تشكيل وقيادة و تطور الحركة ، و المساعدة على بلورة الإمكانية من أجل التغيير الثورى فى الحركة الشعبية . ما لا يستطيعوا أن يفعلوه هو تولى السلطة فوق مبادرة هذه الحركات الشعبية نفسها.
الأعضاء فى هذه المجموعات الدعائية ينكرون الأوضاع التراتبية (تمتع أى شخص بسلطة رسمية أكثر من الآخرين ) وهى الأوضاع المشابه للأحزاب الماركسية اللينينية الطليعية ،كما أن المجموعات الدعائية الأناركية لن تسمح بإدامة قيادتها من خلال الديكتاتورية بعد الثورة .فبدلا من ذلك فأن الجماعات الدعائية واتحاداتها سوف تحل نفسها فور انتصار الثورة ، وعضويتها السابقة عندئذ ستكون مهيئة للذوبان فى عمليات اتخاذ القرارات فى تجمعات المجتمع الجديد .ومن ثم سيكون هؤلاء الأناركيون بعد الثورة بلا قيادات بل مجرد أفراد أكثر وعيا يعملون كمرشدين و كمنظمين لحركة الجماهير فى عملية بناء المجتمع الجديد .
ما لا نريده ولا نحتاجه بالفعل هو مجموعة من السلطويين تقود الطبقة العاملة ، و تقيم من نفسها قيادة مركزية لصنع القرارات و بدلا من "ذبول" دول الماركسية الللينينية الموعود فأننا رأيناها جميعا وقد أدامت الأوضاع التسلطية (البوليس السرى، سادة العمال ، الحزب الشيوعى) للحفاظ على سلطتهم التى انتزعوها .
الفعالية الظاهرة لمثل هذه المنظمات التى تخدع البعض بضرورتها ، تحجب الطريقة التى يحتذى بها الثوريين أنفسهم المؤسسات الرأسمالية ( الدولة والشركة) التى يكافحونها ، فمنظماتهم المحاكية للنمط البورجوازى القائم على الانقسام بين البشر ، بين من يأمرون ومن يطيعون الأوامر ، تصبح ممتصة بالقيم البورجوازية والسلطوية برغم خطابها الشيوعى التحررى، ومعزولة تماما عن الاحتياجات الواقعية ورغبات الناس العادية.
مقاومة الماركسيين اللينينين لقبول التغيير الاجتماعى الثورى الذى يحطم الانقسام بين البشر إلى آمرين ومأمورين ، أيما كان يكمن فى فوق كل ما رأيناه فى مفهوم لينين للحزب . فرضية ضرورة انتزاع السلطة السياسية ووضعها فى يد الحزب الشيوعى كشرط للتحرر الاجتماعى .الحزب الذى يخلقه اللينينين اليوم ،مثلما يعتقدون سوف يصبح الحزب الوحيد للبروليتاريا و الذى يمكن للطبقة العاملة من خلاله أن تنتظم وتحوز السلطة وأن تحرر نفسها.
فى الممارسة أيما كانت ،هذا يعنى الديكتاتورية الشخصية والحزبية، والتى تعطي الحزب الفائز والقائد الحق والواجب لمحو كل الأحزاب و الأيديولوجيات الأخرى المهزومة و المقودة . كل من لينين وتروتسكى و ستالين ، قد قتلوا الملايين من العمال والفلاحين، كما نكلوا بمعارضيهم الأيديولوجيين فى الجناح اليسارى للثورة ، وحتى بالألاف من أعضاء حزبهم البلشفى.
دموية هذا التاريخ الخيانى تفسر كل هذه العدائية والمنافسة البالغة الحدة بين الأحزاب الماركسية اللينينية و التروتسكية حتى اليوم ، وتفسر لماذا نرى فى كل دول العمال سواء فى كوبا أو فى الصين أو فى فيتنام أو فى كوريا تجسم بيروقراطية طغيانية فوق شعوبها. ويفسر أيضا لماذا رأينا أنه فى معظم البلاد الستالينية بشرق أوربا قد تم إسقاط حكوماتها بواسطة البورجوازية الصغيرة والناس العاديين فى عقد الثمانينات ، و ربما نشهد خسوف شيوعية الدولة بشكل كامل ، فهؤلاء لم يصبح لديهم شىء جديد ليقولوه وأنهم لن يمكنهم استعادة حكوماتهم مرة ثانية.
البديل عن المركزية الديمقراطية هى الديمقراطية المباشرة
بينما تصل المجموعات الأناركية لقراراتها عبر مناقشة أناركية بين أعضاءها ،نجد أن الماركسيين اللينينين ينتظمون خلال ما يسمى بالمركزية الديمقراطية .المركزية الديمقراطية تقدم كشكل من ديمقراطية الحزب الداخلية ، لكنها فى الحقيقة محض تراتبية استبدادية ، حيث كل عضو فى الحزب وأخيرا فى المجتمع بعد نجاح الحزب فى الوصول للسلطة يكون خاضعا للعضو الأعلى حتى نصل للجنة المركزية للحزب كلية القدرة والجبروت، ثم رئيسها صاحب الحق الوحيد فى التفكير وإصدار الأوامر . و هذا إجراء غير ديمقراطى بشكل كامل وهو يضع القيادة فوق مستوى النقد حتى لو لم تكن فوق مستوى اللوم .أنها طريقة تفسد و تفلس العمليات الداخلية للمنظمة السياسية ، أنك لا تملك صوتا فى الحزب ويجب أن تخاف من قول أى تعليقات ناقدة للقيادة أو حول القادة حتى لا تتناولك الشكوك والاتهامات.
القرارات فى المجموعات الأناركية تتخذ من قبل كل الأعضاء (والذين لا يملك أحد منهم سلطات فوق ما يملكه عضو أخر) الأقلية المخالفة تحترم ، و مساهمة كل فرد تكون طوعية . كل عضو له الحق فى الموافقة أو عدم الموافقة على أى سياسة أو فعل ، وأفكار كل عضو تعطى نفس الوزن والاعتبار ،لا قرار يمكن أن يتخذ حتى يكون لكل عضو فرد أو مجموعة منضمة يمكن أن تتأثر بهذا القرار ،الفرصة ليعبر عن رأيه فى الموضوع محل القرار .الأعضاء الأفراد والجماعات المنضمة للاتحاد تحتفظ بحقها فى رفض دعم أنشطة جماعية أو اتحادية معينة .هذه هى الديمقراطية الحقيقية ،القرارات التى تخص الاتحاد ككل يجب أن تتخذ بواسطة أغلبية أعضاءه .
فى معظم القضايا لا يكون هناك احتياج حقيقى لاجتماعات رسمية من أجل اتخاذ القرارت ، ما نحتاج إليه هو تنسيق أعمال المجموعة أو الاتحاد . بالطبع ، هناك أوقات يجب أن يتخذ فيها قرار عاجل ، وأحيانا بسرعة جدا. وهذا يكون أمر نادر لكن أحيانا لا يمكن تفاديه ،القرار فى هذه الحالة يمكن أن يتخذ بواسطة حلقة أصغر من العضوية العامة المكونة من مئات أو آلاف .
ولكن فى الأحوال العادية كل هذا يحتاج لتبادل المعلومات والحقائق بين الأعضاء و الجماعات من أجل اتخاذ قرار يعيد تناول القرار الأصلى الذى تم اتخاذه فى ظرف الطوارىء. بالطبع خلال هذا النقاش سوف يبذل جهد لتوضيح أي اختلافات أساسية بين الأعضاء حول القرار المتخذ ، و اكتشاف الطرق البديلة للفعل الذى تم اتخاذ القرار بشأنه.
وهناك دائما محاولات للوصول عبر النقاش لتوافق متبادل على القرارات بين وجهات النظر المتعارضة ،بينما لو كان هناك مأزق أو عدم وجود إمكانية للوصول للتوافق المتبادل مع القرار ، فيأخذ القرار طريقه للعرض على التصويت ، وحينئذ يقبل أو يرفض أو يلغى بأغلبية الثلثين . و هذا على العكس كليا من ممارسة الأحزاب الماركسية اللينينية حيث اللجنة المركزية من جانب واحد تعد السياسات والقرارات لكل المنظمة على نحو تحكمى وتسلطى
الأناركيون يرفضون مركزة السلطة ومفهوم المركزية الديمقراطية .كل المجموعات الدعائية هى اتحادات حرة مشكلة وفق احتياج عام و ليسوا ثوريين مروضين بالخوف من السلطة ، بينما يتسع نطاق مجموعات العمل (والذى ممكن أن تتشكل بين العمال أو حركة مكافحة العنصرية ،أو حقوق المرأة ،أو التمويل أو التغذية والإسكان ..الخ) و تصبح منظمات ضخمة يصعب معها ممارسة الديمقراطية المباشرة ، فأنه يمكنها حينئذ أن تنقسم لمجموعتين أو أكثر تتمتع بالاستقلال الذاتي بلا مركزية مع استمرارها متحدة فى اتحاد واحد واسع .و هذا يجعلها قادرة على الاتساع بلا حدود بينما تحتفظ بشكلها الأناركي المتميز بكل من الإدارة الذاتية و اللامركزية. أنها نوعا ما تشبه النظرية العلمية للخلية الحية فى الانقسام وإعادة الانقسام لكن بالمعنى السياسى.
المجموعات الأناركية لا تنتظم بشكل ضرورى على نحو محكم ، نظرية التنظيم اللاسلطوية مرنة والبنية التنظيمية يمكن أن لا توجد عمليا أو توجد على نحو محكم جدا وهذا يعتمد على نمط المنظمة المطلوب فى ظل الظروف الاجتماعية التى تواجهها الحركة اللاسلطوية ،على سبيل المثال المنظمة يمكن أن تكون محكمة خلال العمليات العسكرية أو خلال القمع السياسى المشدد.
المشتركات الجماهيرية (الكوميونات) بديل عن ديكتاتورية البروليتاريا
الأناركيون الشيوعيون يرفضون المفهوم الماركسى اللينينى عن ديكتاتورية البروليتاريا ،وما يسمى ب"الدولة العمالية" مفضلين المشتركات الجماهيرية (الكوميونات).
بما لا يشبه أعضاء الأحزاب اللينينية والذين يعيشون يوميا على نحو مشابه بوجه عام لنمط الحياة البورجوازى الحاضر، فأن الأناركيون يحاولون العيش وفق أنماط الحياة والبنية التنظيمية التى تحاول أن تعكس المجتمع التحررى للمستقبل و ذلك من خلال الترتيبات الحياتية التشاركية، الجماعات المتقاربة...
الأناركيون بنوا كل أنواع المشتركات الجماهيرية والتجمعات خلال الحرب الأهلية الأسبانية فى عقد الثلاثينات من القرن الماضى ، لكن تم تحطيمها من الفاشيين والشيوعيين.
ولأن الماركسيين اللينينين لا يبنوا تنظيمات تعاونية ( أنوية المجتمع الجديد) مفضلين الانغماس فى عالم البورجوازية ، فأنهم لا يستطيعوا رؤية العالم إلا فى المصطلحات السياسية البورجوازية فقط.
هم يريدون الاستحواز على سلطة الدولة و لكى يحلوا ديكتاتورياتهم فوق الشعب والعمال بدلا من إزالة سلطة الدولة واستبدالها بالمجتمع التعاونى الحر.
أنهم يؤكدون أن الحزب يمثل البروليتاريا و التى لا احتياج لها لتنظيم نفسها خارج الحزب ، وحتى فى الاتحاد السوفيتى السابق ، فأن عضوية الحزب الشيوعى لم تشكل إلا خمسة فى المئة من السكان. هذه أسوء أنواع النخبوية و التى جعلت الأحزاب الرأسمالية أكثر ديمقراطية بالمقارنة بها.
ما كان يقصده الحزب الشيوعى بتمثيل سلطة العمال لم يكن واضحا ، إلا أن النتائج كانت 75 عاما من القهر السياسى وعبودية الدولة بدلا من عهد من الحكم الشيوعى المجيد ، أنهم يجب أن يخضعوا للحساب سياسيا من جراء جرائمهم ضد الناس، ويجب أن نرفض نظريتهم و ممارستهم السياسية الثورية ،أنهم جللوا الاشتراكية والشيوعية بالعار، و أجلوا إمكانية تحققهما الفعلى لمدى زمنى طويل.
أننا نرفض ديكتاتورية البروليتاريا ، كونها قهر غير مقيد ، والماركسيين اللينينين و الستالينين مصممين على تحقيقه ، الملايين قتلهم ستالين باسم مكافحة الصراع الطبقى الداخلى ، وملايين أكثر قتلتهم الحركات الشيوعية فى الصين و بولندا و أفغانستان وكمبوديا وبلاد أخرى حيث اتبعت فرضية كل من تروتسكى و ستالين بضرورة الإرهاب الثورى . نحن نرفض شيوعية الدولة كأسوأ انحراف وطغيان حدث باسم التحرر مما اضر بقضية التحرر .و نجزم أننا نستطيع أن نصنع ما هو أفضل منها مع المشترك الجماهيرى (الكوميون) .
كوميون الجماهير الأناركي (أحيانا يطلق عليه مجلس العمال بالرغم من بعض الاختلافات بين المفهومين) يمكن أن يكون قومى أو قارى أو اتحاد متعدد القوميات لتعاونيات سياسية واقتصادية و تشكيلات تشاركية محلية .
اللاسلطويون يتطلعون لعالم ومجتمع يكون فيه صنع القرار عمل كل شخص والذى ينخرط فيه مع باقى أعضاء التشاركية أو الكوميون المنضم إليه ، و من ثم فهو ليس عمل قلة تروض الآخرين وفق نزواتها وتحركهم كالتروس فيما يسمى ديكتاتورية البروليتاريا.
إن أى ديكتاتورية وكل ديكتاتورية هى أمر سيئ حتى ولو تمت باسم البروليتاريا ، و أنها لا يمكن أن تعيد لنا الأشكال الاجتماعية الحرة بعد أن سلبتها ، بالرغم مما يخبرنا به اللينينيون بأنها تحمينا من الثورة المضادة .فطالما الماركسيين اللينينين يدعون أن هذه الديكتاتورية ضرورية لكى تضرب أى ثورات مضادة بورجوازية تقودها الطبقة الرأسمالية أو رجعيو الجناح اليمينى فأنهم أبعد ما يكونوا عن المشروع التحررى .
الأناركيون يشعرون أن هذا الإدعاء نفسه جزء من مدرسة التخريف الماركسى. فجهاز ممركز مثل الدولة يكون هدف أسهل للمعارضين فى معسكر الثورة المضادة من تنظيم اتحادى مكون من التشاركيات اللامركزية. هذه التشاركيات سوف تبقى مسلحة ومدربة للدفاع عن الثورة ضد أى جيش يهاجمها عسكريا . مفتاح حركة الناس نحو الدفاع والحراسة والكفاح ووحدات الاستعدادات العسكرية الأخرى يكمن فى الحفاظ على ما اكتسبوه بأنفسهم من تشاركيات حرة ، وليس قهرهم بأجهزة الأمن وغسيل العقول .
موقف اللينينين من ضرورة الديكتاتورية لحماية الثورة لم يكن مبرهنا عليه فى الحرب الأهلية ، و التى تلت الثورة الروسية ؛ فى الحقيقة بدون الدعم من الأناركيين وقوى الجناح اليسارى الأخرى و عبر الشعب الروسى حكومة البلشفيك كانت ستهزم لا محالة .
والحقيقة أن الديكتاتورية انقلبت على داعميها ، وطاردت الحركات الأناركية الأوكرانية والروسية وحتى المعارضين أيديولوجيا فى الحزب البلشفى حيث واجهوا السجن و القتل و النفى . ملايين من المواطنيين الروس قد قتلهم لينين و تروتسكى حقا بعد الحرب الأهلية بينما كانوا يشددون من سلطة الدولة وهو ما سبق حكم ستالين الدموى.
الدرس هو أننا لن نخدع لكى نسلم سلطة الشعب المتجذرة لديكتاتورين يقودونا كأصدقائنا وقادتنا.
نحن لا نحتاج الحلول الماركسية اللينينية فهى خطيرة ومضللة .هناك طريق آخر ، لكن عند كثير من اليساريين و الناس العاديين الاختيار الوحيد يظهر ليكون بين الفوضى الأناركية أو الأحزاب الشيوعية الماركسية مهما كانت دوجمائية و ديكتاتورية . هذه هى النتيجة الأولية لعدم الفهم والدعاية.
الأناركية كأيديولوجية تقدم بنيات تنظيمية ملائمة ، بمقدار ما هى بديل صالح للنظرية الثورية ، و التى لو استخدمت يمكن أن تكون أساس لتنظيم بصلابة التنظيم الماركسى اللينينى (أو حتى أكثر منه )، هذه المنظمات ستكون مساواتية و واقعية لمنفعة الناس فقط أكثر من القادة الشيوعيين.
الأناركية غير مقيدة بأفكار نظرية فردية، ومن ثم فهى تسمح بالإبداع فرديا ليتطور فى شتى التجمعات بدلا من الدوجمائية المميزة للماركسيين اللينينيين ،ولكونها ليست عقيدة دينية فهى تشجع التعامل الواسع مع الإبداع والتجريب والارتقاء بمؤيديها ليجيبوا واقعيا على متطلبات الظروف المعاصرة.
هى مفهوم لصنع أيديولوجيا صالحة لمتطلبات الحياة بدلا من محاولة صنع حياة صالحة لمتطلبات الأيديولوجيا، ومن ثم فالأناركيون يبنون منظمات لتبنى عالم جديد لا لتديم سلطتها فوق الجماهير .
يجب أن نبنى حركة أممية تنسيقية منظمة تهدف إلى تحويل الكوكب إلى تشاركية ستكون وثبة كبرى فى التطور الإنسانى وخطوة ثورية عملاقة .أنها تغير العالم الذى نعرفه وتنهى المشاكل الاجتماعية التى طالما اجتاحت الجنس البشرى ،أنها بدأ عصرا جديدا من الحرية والإنجاز.
دعنا نتفق معه لنحصل على عالم نكسبه!


الأحد، 15 مايو 2011

دور الأناركيين فى الثورة المصرية وإعادة إنتاج فشلهم التاريخي


دور الأناركيين فى الثورة المصرية وإعادة إنتاج فشلهم التاريخى

سامح سعيد عبود

2011 / 5 / 15

"فعلوها الفوضويون"! يقصد الأناركيون هذا ما حدثنى به أحد قيادات الماركسيين من جيل السبعينات فى مصر حين قابلنى أثناء الاعتصام فى التحرير، ويمكنا أن نأخذ هذا الحديث على ثلاثة أوجه كالتالى
الوجه الأول أن ثورة 25 يناير المصرية كانت نموذج أناركى للثورة، أى ثورة بلا قيادات ولا زعامات وبلا أحزاب سياسية، بل كانت نتيجة استخدام وسائل فى الحشد والتنظيم والتعبئة تتجاوز تلك الوسائل العتيقة التى عرفتها بعض الثورات السابقة، وهذا لا ينفى المحاولات المستمرة، من الساسة المحترفين وأحزابهم بدءا من هؤلاء الذين لم يشاركوا فيها من البداية بل وحتى من وقفوا أمام شرارة الثورة الأولى مستهزءين بها، أو كانوا محايدين إزاءها، أن يقفزوا على موجة الثورة و رقاب الثوار، فارضين زعامتهم وقيادة تنظيماتهم ورؤاهم عليهم، وامتلئت شاشات الفضائيات بأمثال هؤلاء، مصورين أنفسهم كزعماء للثورة وقادتها ومنظميها وملهميها. ومن هنا سوف تنتهى الثورة إلى تجسيد أحد مشاريع هؤلاء سواء الدولة الإسلامية أو الدولة الديمقراطية الليبرالية أو الدولة الاشتراكية سواء على الطراز الناصرى أو السوفيتى أو الاشتراكى الديمقراطى، أو أى مشروع سلطوى آخر يحقق حدود دنيا من مطالب الثورة الأساسية، و لا يحقق الحد الأقصى الممكن من مطالبها فى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية كما يسعى إلى ذلك الأناركيون دون جدوى.
الوجه الثانى هو تحقيق اعتصام التحرير على مدى ثمانية عشر يوما نموذجا ناجحا لمجتمع أناركى لاسلطوى بلا قيادات ولا تنظيم قسرى أو هرمى، بل نجح المعتصمون فى تحقيق أهدافهم عبر عملهم التطوعى المشترك وتعاونهم وتضامنهم، ووفروا لأنفسهم الأمن والطعام والمأوى بعيدا عن الدولة والبقرطة، وقد لمس المعتصمون حالة من السعادة أصبحوا يحنون إليها الآن بعد زوالها، وطالب بعضهم بالعودة لأخلاقيات وسلوكيات اعتصام التحرير التى زالت بمجرد زوال شروطها، وهى غياب السلطة الهرمية المتعالية على البشر، فتلك النوعية من السلطة تفسد الناس وتصيبهم بأمراض العقل والنفس، سواء أكانوا متسلطين فتصيبهم بالسادية أو متسلط عليهم فتصيبهم بالمازوخية، ولأن الثورة هى التمرد على وضع الخضوع وعلاقات التسلط، فأنها تفجر أفضل ما فى البشر ليعودوا أصحاء، وهذا ما لمسناه جميعا فى اعتصام التحرير، و لكن ما إن تعود علاقات السلطة مرة أخرى، ويعود الناس لوضع الخضوع، حتى تظهر مجددا عند قطبى المتسلطين والمتسلط عليهم أعراض أمراضهم السابقة
الوجه الثالث الذى شكل مفاجأة سارة لى هو استمرار اكتشافى عبر الخمس شهور الماضية لأعداد متزايدة من الأناركيين فى مصر، لم اتعرف عليهم من قبل، مبعثرين عبر محافظتها المختلفة، ومنتمين لاتجاهاتها المتنوعة، يعملون بشكل جماعات صغيرة أو كأفراد، هم دائما فى فعاليات الثورة و تنظيماتها المختلفة، كمجرد أفراد مشاركين، ولكنهم غير متمايزين عن باقى من فى الحشود، و هم غالبا ما لا يعلنون عن أنفسهم، ولا يفصحون عن انتمائهم الفكرى والسياسى على نحو صريح، ليست لهم مطبوعات ورقية، أو رموز معلنة غير أن مجموعة صغيرة منهم رفعت العلم الأناركى فى عيد العمال بميدان التحرير، ذلك لأن الأناركيين فى الممارسة عالميا ينقسمون لاتجاهين فهناك من يفضلون العمل الدعائى فى مجموعات منظمة، تشكل اتحادات محلية واقليمية وعالمية فيما بينها، أو يفضلون التأثير الفردى بالانخراط فى الأعمال الاحتجاجية أو المنظمات الاجتماعية كالنقابات العمالية والمهنية واللجان الشعبية والتعاونيات وغيرها أى ملاحين غير مرئيين للسفينة الثورية، وينقسم الأناركيون فى مصر إلى من ينتمون إلى جيل أكبر سنا، وهم غالبا مروا فى أحدى فترات حياتهم بانتماء ماركسى فكريا وحزبيا، وترى بعضهم يفصح عن تحوله الفكرى، والبعض الآخر لا يفصح عن انتماءه، فضلا عن القريبين من الأناركية فكريا وعمليا والمتأثرين بها من اليسار الراديكالى، غير أن هناك جيل أصغر غالبا فى العشرينات من عمره، لم يتكون فى منظمات ما، ولم يتبنى أيديولوجيات سابقة، عبر عمليات تجنيد وتثقيف أيديولوجى ، ولكنهم ونظرا لإجادتهم كل من الإنجليزية والتعامل مع الأنترنت، تأثروا بتلك الرؤية للعالم، وهؤلاء تتكاثر مدوناتهم و تتنوع صفحاتهم على الفيس بوك، وأحد أكثر صفحاتهم شهرة هى الأناركية المصرية التى بلغ اصدقاءها ما يقرب من 400.
تجد فى كل هؤلاء تنوعات بتنوعات من يطلقون على أنفسهم أناركيين فى العالم، فهناك قلة ينتمون لما يسمى باليمين الأناركى وهم رأسماليون ليبراليون متطرفون لا أكثر،وهناك طبعا الفرديون، وهناك من يتخذون الأناركية نوع من الموضة التى تبرر تمردهم الفردى وتحللهم الاجتماعى لا أكثر ،وهناك من لايعنيهم التغيير الثورى للعالم بقدر ما يعنيهم تحرير أنفسهم والمجموعات الصغيرة التى ينتمون إليها داخل المجتمع القائم، وكل هؤلاء لا يعنونا فى هذا المقال بالطبع، أما من يعنوننا فهم المنتمين لليسار الأناركى الثورى باتجاهاتهم العملية المختلفة المجالسية والتعاونية والنقابية. ومن ناحية ثانية تتفاوت مستويات الثقافة والوعى والفهم بين هؤلاء، ومن ناحية ثالثة يتفاوتون فى مدى نضاليتهم والتزامهم وفى مدى عمليتهم وفعاليتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية والثقافية.
ومن هنا فليس معنى تلك الكثرة العددية أن هؤلاء مؤثرين فى تطور العملية الثورية فى مصر بما يتوافق وحجم انتشارهم لأنهم غالبا أفراد بلا تنظيم، فعاليتهم فعالية جنود فى الحشود، يحصد نتاج نضالهم و تضحياتهم الجنرالات من الساسة المنظمين، أى أنهم يوظفوا أنفسهم وبإرادتهم لصالح إعادة إنتاج مجتمع سلطوى على عكس أهدافهم، ويعيدون إنتاج فشلهم التاريخى المتكرر، فى كوميونة باريس والثورة الروسية والحرب الأهلية الأسبانية والموجة الثورية العالمية فى مايو 68 وأخيرا حركتى مناهضة العولمة والحرب واللتان انتهيتا إلى الفشل، و الحقيقة أنه فى كل تلك الأحداث التاريخية كان الأناركيون يتواجدون بقوة ولكن بلا تأثير فى النتائج النهائية.
فى حوار جمع بين مجموعة من الأناركيين المصريين وأحد الرفاق الأناركيين من شيلى نقل لهم خبرته من تطورات الوضع فى أمريكا اللاتينية، أن نفس المشكلة تتكرر فى كل موجة ثورية، نضال عاتى وحضور مكثف فى الفعاليات والاحتجاجات الثورية، ولكن الثمار غالبا ما تقع فى أيدى سلطويين مختلفين، وهذا يشير بوضوح لخطأ لابد من تداركه، حتى نتوقف عن إعادة إنتاج الفشل.
تدارك الخطأ يكمن فى انتظام الأناركيين فى منظمات للدعاية والحشد والتعبئة والتنظيم،مختلفة تماما عن التنظيم اللينينى بأسسه المعروفة التى سببت الكوارث التاريخية

كما يجب أن تكون هناك رؤية برنامجية للتغيير الاجتماعى وفق الممكن والمتاح باعتبار أن الهدف النهائى أبدى لكن الأهداف المرحلية تجاهه ممكنة، لكى يتم النضال لتحقيقها وفق الظروف الواقعية وهناك محاولةبهذا الشأن

السبت، 14 مايو 2011

مبادئ اللاسلطوية


مبادئ اللاسلطوية

 سامح سعید عبود
        اللاسلطوية هى الترجمة العربية الأفضل للتعبير عن تيار سياسى واجتماعى و فلسفى ، تعددت أسماءه و رموزه الفكرية ، و تجسيداته سواء فى حركات ثورية أو ثورات عبر التاريخ ، وتتنوع بداخله المدارس برغم ما يجمعه من إطار عام .عرف فى العربية بالفوضوية التى هى ترجمة غير دقيقة لكلمة ((Anarchism)) والتى تعنى فى اليونانية (لا حكم ) فى حين أن الفوضوية اشتقاق نسب عربى من فوضى ، وترجمتها فى الإنجليزية ((choas،)) ومن ثم فهى ترجمة فضلا عن عدم دقتها فهى خبيثة حيث تهدف لتنفير من يسمعها ، وقد عرف هذا التيار أيضا باللاسلطوى ، والتحررى ولاحقا أسماء أخرى أكثر تحديدا أهمها الشيوعية التحررية .
ويرجع هذا التيار لجذور فكرية قديمة إلى ما قبل العصور الحديثة ، تعلى من قيمة الحرية الإنسانية ، وترفض السلطة القمعية وتنقدها ، وتعتبر الدولة كمؤسسة فى حد ذاتها مصدر كل شر ، ومصدر القهر الواقع على الإنسان ، وسبب استغلاله وإفساده وتشويهه ، وتبشر بعالم يخلو من هذا القهر ، وذاك الاستغلال ، وبإمكانية أن يحيا البشر أحرارا دون هذه الدولة المتعالية عليهم و المتسلطة عليهم أيا ما كان نظامها. ويرى البعض أن هذا التيار هو الامتداد الأكثر جذرية لفكر عصر التنوير الذى سبق الثورة الفرنسية ، بشعـاراتها الثـلاث ( الحرية ، و الإخاء ، والمساواة ) كما يرى البعض أن هناك جذورا لاسلطوية فى كل الثقافات عبر التاريخ.
وتنقسم جذور هذا التيار فى العصر الحديث لثلاث منابع بدأت فى القرنين الثامن و التاسع عشر ، اللاسلطوية الفردية ويمثلها الفيلسوف الإنجليزى جودوين والمفكر الألمانى شترينر ، وهى تقوم على الحرية المطلقة للفرد إزاء أى سلطة أو جماعة ..واللاسلطوية الجماعية أو الشيوعية ويمثلها الثوريان الروسيان باكونين و كروبوتكين والمفكر الفرنسى برودون ، و هى تنشد مجتمع تتعاظم فيه الحرية الفردية ، و تنتفى فيه السلطة القمعية ، فى إطار جماعى منظم تعاونيا ، باعتبار الإنسان فى النهاية حيوان اجتماعى ..واللاسلطوية المسيحية ويمثلها الروائى الروسى الشهير تولوستوى الذى استلهم من المسيحية رؤى تحررية و لا سلطوية.كما ظهر مؤخرا من تأثر بأفكار هذا التيار من المفكريين الإسلاميين على قلتهم النادرة .
وبدأ من منتصف القرن التاسع عشر ، ظهرت اللاسلطوية الجماعية أو الشيوعية كتيار قوى فى العديد من البلدان الأوربية و الأمريكية ، شاركت فى الأممية الأولى ، واشتبكت فكريا وتنظيميا مع الماركسية ، وخرج ممثلوها ليشكلوا أممية أخرى ، وشارك ممثلوها فى العديد من الحركات الثورية فى أسبانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا حتى منتصف الثلاثينات من القرن العشرين ، وخلال ذلك ظهرت فى داخل هذا التيار اللاسلطوية النقابية فى فرنسا ، والتى بلغت أوجها فى أوائل القرن العشرين ، وظهر اتجاه ماركسي لا سلطوي فى مواجهة التفسير اللينينى السلطوى للماركسية ، ويمثله كل من روزا لوكسمبورج و بانيكوك ، والمعروف الآن بشيوعية المجالس ، وهم الأقرب للماركسية الأصيلة من كل التيارات الماركسية الأخرى.
وما أن انتصفت ثلاثينات القرن العشرين حتى انتهت كل هذه التيارات لفترة كمون طويلة ، حتى اعتقد البعض أنها انتهت تماما ، وأصبحت مجرد جزء من التاريخ ، ومجرد تراث من الأفكار . ومع منتصف الخمسينات من القرن العشرين بدأ جهد نظرى لإحيائها ، حيث ظهرت كتابات جديدة لمفكرين جدد تعتمد على نقد الكتابات والممارسات السابقة ، وتحاول استشفاف رؤى جديدة تلتزم بالإطار العام اللاسلطوى والتحررى ، وفى منتصف الستينات ومع ظهور اليسار الجديد ، خرج هذا التيار من كمونه ، واخذ ينتشر مجددا فى العديد من بلدان غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، ومع سقوط الدول التى تدعى بالاشتراكية فى أواخر الثمانينات ، و سقوط اللينينية أحزابا وأفكارا مثلما سقطت الاشتراكيات الديمقراطية والإصلاحية، و زيادة التشكك فى عبادة الدولة ، واستمرار نقد كل من النظرية والممارسة السلطويتين ، ونقد الأيديولوجيات التسلطية والقومية ، أخذ هذا التيار يكسب مواقع متزايدة فى أوروبا واستراليا والأمريكيتين وشرق آسيا ، وبعض بلدان الشرق الأوسط وجنوب أفريقيا ، وفى السنوات الأخيرة شارك هذا الاتجاه فى الكثير من الأحداث ، و بفضل ثورة الاتصالات الأخيرة أخذ ينتظم عالميا ، ويزداد تأثيره وضوحا ، وعرف مفكرين جدد أشهرهم عالم اللغويات الشهير ناعوم شومسكى، سام دوجلوف ودانيال جرين وغيرهم …ويدخل تحت هذا التيار مدارس عديدة تتفق فى الإطار العام ، وتختلف فيما بينها فى التفاصيل ، فهناك شيوعية المجالس ، والشيوعية التحررية ، والماركسية الليبرالية ، و الاستقلالية ، والمواقفية ، و اللاسلطوية النقابية ، المنبرية ..الخ .
وسأحاول فيما يلى شرح الإطار العام لهذا التيار ، أهدافه و وممارسته ، كما أفهمه . فاللاسلطوية ليست مذهبا جامدا ، ولا تعرف النصوص المقدسة ، ورموزها من المفكرين مجرد مجتهدين لا أنبياء ، ولا قداسة لهم ولا لنصوصهم ، ومن ثم يقبل هذا التيار النقد والتطوير داخل إطار مبادئه العامة.
الهدف
أن يكون لنا هدفا نسعى إليه لا يعنى أن نكون وبالضرورة خياليين ، ومن ثم فالبحث الإنسانى المشروع عن تنظيم اجتماعى يقوم على أساس التعاون الاختيارى الحر بين أفراد المجتمع لتلبية احتياجاتهم المشتركة ، وبشرط أن تتعاظم فيه الحرية الإنسانية ، وتختفى فيه السلطة القمعية ، ليس حلما خياليا مهما ظهر لنا من صعوبات تحقيقه على أرض الواقع الذى تجذم حقائقه الصلبة باستحالة تحققه حتى الآن ، فلهذا الهدف تاريخ طويل بطول التاريخ البشرى المكتوب كله ، ولطالما حلم البشر بالحرية أفرادا و جماعات ، وناضلوا من أجل ما حلموا به ، وبرغم اتهامهم أحيانا بالخيالية ، فقد أحرزوا تحقيق جزئى للحلم عبر أشكال متنوعة من الانتصارات والهزائم ، ومن التقدم والتراجع ، ومن التجارب والأفكار ، وهو ما يلخص جوهر الحياة الإنسانية بأسرها ، فالبشر كانوا ومازالوا و سيظلون يحلمون بتحررهم الحقيقي ، الذى يعنى فى جوهره سيطرتهم على ظروف حياتهم ، وتعظيم قدرتهم على اتخاذ ما يعنيهم من قرارات ، وأن يعيشوا وفق ما يقرروه لا ما يقرره غيرهم ، وتعظيم قدراتهم على الاختيار من بين البدائل المختلفة التى تطرح عليهم خلال مسار حياتهم . وإذا كان البشر لابد أولا أن يوفروا احتياجاتهم المختلفة عبر الإنتاج المادى الذى يشكل أساس وجودهم وتطورهم ، فلا شك أيضا فى أن تطوير قدراتهم الإنتاجية بالسيطرة على الطبيعة وتحويلها لما يشبع احتياجاتهم ، مرتبط كذلك بالتحرر من بعض قيود الطبيعة التى تكبلهم ، فإذ ما أعاقتهم البحار عن عبورها اخترعوا السفن ، وإذا ما قيدتهم الجاذبية عن الطيران اخترعوا الطائرات ، وبأمثال تلك المخترعات لم يستطيعوا التحرر فحسب من القيود الطبيعية على حريتهم فى الانتقال ، بل ازدادت قدرتهم الإنتاجية كما ونوعا وحققوا كل ما حققوه من تقدم. وعلى مستوى التاريخ الاجتماعى كانت الثورات الاجتماعية تهدف دائما إلى تحرير المقهورين من تسلط من يملكون السلطة ، وهم وإن كانوا لم يحققوا حتى الآن التحرر الكامل من التسلط المتعالى عليهم ، الخفى منه والظاهر ، والمخادع منه والصريح ، إلا أنهم وعبر التاريخ الطويل قد حققوا ، وعلى نحو تدريجى المزيد من الحريات التى ما كان يحلم بها أجدادهم ، إلا أن ما تحقق لم يبلغ بعد الهدف المنشود الذى هو جوهر الوجود البشرى ، والذى يعطيه معناه ومبرره . فالعبودية مجرد حياة حيوانية ،لا ترقى لمستوى الحياة البشرية . وقديما اعتبر الرومان العبد مجرد آلة ناطقة مجردة من بشريتها.
ومن هنا فالهدف السالف الذكر ليس اختراعا بشريا ، وليس عالم مثالى سابق الإعداد علينا تحقيقه ، ولا هو مجرد مذهب جامد ، ولا مخطط من قبيل الهندسة الاجتماعية ، ولكنه هدف طبيعى للبشر يفسر تطورهم على كافة المستويات ، ولكن لما كان الإنسان ، ما هو إلا ظاهرة طبيعية معقدة للغاية هى إنتاج لمجتمع أكثر تعقدا ، ومن ثم لا يسهل فهمهما ، فى وجودهما وتطورهما ، فإن هذا الهدف الطبيعى يأخذ مسارات معقدة فى دفع التاريخ البشرى ، ويتجلى فى أشكال متعددة ربما لا يسهل الربط بينها وبين هذا الهدف ، أو ذاك النزوع لو نظرنا فحسب من سطح الأشياء لا من عمقها أو أن يقتربوا منه وكأنهم يبتعدون عنه أو على العكس .
فالمخترعين الذين ساعدوا البشر على تحقيق السيطرة المتزايدة على الطبيعة ، ومن ثم زيادة تقدمهم ، والثوار الذين هدموا مجتمعات ليقيموا مجتمعـات أخرى بديلة أكثر حرية ، لم يربطوا بالطبع بين ما فعلوه وبين الهدف اللاسلطوى ، وأن كانوا قد ساعدوا على الاقتراب من تحقيقه ، وقد أدعى بعضهم أحيانا أنهم ينشدوه ،وسعى البعض إليه ، إلا أنهم جميعا فشلوا فى الوصول إلى ما نشدوه.
أن ما يعوق تحقق الهدف اللاسلطوى على أرض الواقع ، هو أن المجتمعات البشرية منذ نحو ثمانية ألف عام ، وعندما عرفت ولأول مرة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ، ومن ثم الانقسام إلى طبقات مالكة ، وغير مالكة ، عرفوا شكل الدولة كتنظيم اجتماعى منفصل عنهم ليدافع عن مصلحة من يملكون ضد من لا يملكون ،الأمر الذى يتم باحتكار الدولة لمصادر العنف والقهر المسلح ، و من هنا عرفوا الانقسام بين أقلية تحتكر السلطة ، وأغلبية محرومة من السلطة . ومحتكرى السلطة يمتلكون أو يسيطرون على مصادرها ، و تلك المصادر هى الأساس المادى للسلطة والمشروعية ، فهى من تعطى الشرعية لمن يملكها وتحرمها من لا يملكها . و تتغلف السلطة دائما وراء ادعاءات مثالية مضللة كتمثيل الشعب أو الأمة أو العقل أو الطبقة أو القومية أو الدين ..الخ ، وما هى سوى مطلقات مجردة ومثالية وظيفتها الاجتماعية الوحيدة ، مجرد تبرير السلطة التى يمارسها فعليا وواقعيا أفراد ونخب ومؤسسات لا يحق لها تمثيل أحد ، سواء من من تحكمهم ، أو من تدعى استنادها لمرجعيتهم ، هم أفراد و نخب ومؤسسات اكتسبوا الشرعية ، ومن ثم السلطة لمجرد سيطرتهم على مصادرها المادية لا لأفضلية يتميزون بها على المحكومين.
ومصادر السلطة المادية هى :-
أولا:_ الثروة بما تعنيه من كل وسائل الإنتاج ، فمن يملكها أو يسيطر عليها يملك شراء قوة العمل واستغلالها لزيادة ثروته على حسابها ، والسيطرة عليها بالتحكم فى شروط حياتها وظروف عملها ، سواء أكانت قوة العمل هذه عبيدا أم أقنان أم عمال ، فالمحرومين من الثروة لا يملكون إلا الرضوخ لملاك الثروة من أجل ضمان بقائهم على قيد الحياة ، فسواء كنت مملوكا كعبد لمالك الثروة ، أو مضطرا كعامل للتنازل عن جزء من وقتك وحريتك وجهدك فقط لصالحه ، فأنت مجبر على الرضوخ لإرادته لأنه يملك وسيلة بقاءك فى الوجود ، فالملكية الخاصة للثروات حولت الأغلبية البشرية لسلع تباع وتشترى فى الأسواق لمن يدفع الثمن ، سواء على نحو كامل ومطلـق أو على نحو جزئى ونسبى ، وقد فقدت تلك الأغلبية حريتها لصالح من يملكون ، وليس ذلك فحسب ، فهؤلاء القادرين على احتكار وسائل العنف والمعرفة لقهر الآخرين هم أنفسهم مالكى و حائزى الثروة ، أو المسيطرين عليها. وهؤلاء القادرين على إملاء رغباتهم على الساسة والبيروقراطيين هم ملاك الثروة . فالدولة دائما هى الجهاز التنفيذى لملاك الثروة بكل ما تملكه من احتكار وسائل العنف والمعرفة.
ثانيا:- القوة بما تعنيه من وسائل العنف المسلح ، فمن يملكها أو يسيطر عليها قادر على إجبار من لا يملكونها على تنفيذ إرادته ، وقادر بواسطتها على الاستئثار ببعض أو كل الثروة بحجة حماية المجتمع من المجتمعات الأخرى ، أو مالكى الثروة من المحرومين منها ، فمن لا يملكون وسائل العنف مجبرين على التسليم بسيادة من يملكونها وتسلطهم ، والتنازل عن بعض أو كل نصيبهم فى الثروة مقابل تلك الحماية ، ومقابل استمرارهم فى الحياة . ومن يتمرد فعليه أن يمتلك نفس وسائل العنف ، ويستخدمها بكفاءة أكثر لو شاء الانتصار ، والذى إن تحقق له الانتصار ، اكتسب مصدر السلطة وشرعيتها ، وفرض إرادته على المهزوم .
فالذين يحاولون القيام بانقلاب عسكرى يشرعون فى جريمة مخالفة للقانون والشرعية القديمة ، وفى حالة فشلهم فسيقدمون للمحاكمة باعتبارهم مجرمين ومنتهكين للشرعية ومعادين للسلطة الشرعية ، وبمجرد نجاحهم فى ارتكاب جريمتهم ، يكتسبون السلطة والشرعية ويتحولون من مشروع مجرمين لثوار و لسادة و قادة ومصدر للشرعية ، ويقدمون للمحاكمة كل من يتمرد على سلطتهم باسم شرعيتهم الجديدة . فى حين يفقد أصحاب الشرعية السابقون شرعيتهم بمجرد هزيمتهم . فالحقيقـة العارية تقول أن بعد ثمانية ألف عام من الخروج من الغابة ، ومن ثم التمدين والتحضر فما زال البشر يحيون وفق قوانين الغابة ، وأن تهذبت شكلا ، فما زالت القوة مصدر الحق والشرعية ،ومازالت العلاقات البشرية هى بين وحوش تملك القوة وفرائس تفتقدها .
ثالثا:-المعرفة بكل ما تعنيه من وعى اجتماعى كالعلوم والفنون والآداب والفلسفات والأفكار والقوانين والأيديولوجيات هى أحد مصادر السلطة ، والتى تتيح لمن يملكها ، السيطرة والتحكم فيمن يفتقرون إليها ، ولما كانت هذه المعرفة هى إنتاج اجتماعى ، فأن قوة العمل التى تنتجها هى الشرائح الاجتماعية المثقفة ، ورغم تميزها الاجتماعى نظرا لطبيعة ما تنتجه ، إلا أنها فى النهاية وبرغم كل ما يميز أفرادها ظاهريا من بريق اجتماعى ومستوى معيشى مرتفع ، خاضعة لسيطرة وتحكم من يملكون أو يسيطرون على الثروة والقوة ، وحتى من يتمرد من هذه الشرائح ، فأنه معرض للحرمان من الثروة ، وقهر القوة وعنفها . ومن ثم فمشاركة هؤلاء فى السلطة مرهون فحسب برضاء من يحتكرون الثروة والعنف ، وبواسطة ما تملكه نخب السلطة من المعرفة ، ووسائل إنتاجها تتحكم فيمن لا يملكون أى من الثروة والقوة والمعرفة ، فعقول البشر هى صناعة التربية والتعليم والدعاية والإعلام والفنون والآداب ومؤسسات الدين ، فمن يملك تلك الوسائل يملك تلك العقول إلا من استطاع التمرد عليها ، من منتجى ومستهلكى المعرفة ، ذلك التمرد مشروط بدوره بشروط ذاتية وموضوعية تدفع القلة إليه فى اللحظات العادية ،والتى يكون لديها التكوين النفسى والعقلى و الشجاعة والاستعداد لدفع ثمن التمرد .
وتتسع هذه القلة لتتحول لأغلبية فى لحظات التمرد والثورة . ومن زاوية أخرى فالمعلومات الضرورية لكى تصدر حكما صحيحا لاتخاذ قرار ما ، ومن ثم يكون لديك القدرة الفعلية على المشاركة فى السلطة ، ليست متاحة إلا لمن يحوزون على السلطة فعليا ، فاحتكار النخب الحاكمة لمثل هذه المعلومات يتيح لها استمرار احتكار السلطة لأنها تحتكر المعلومات التى تؤهلها لاتخاذ القرارات ، ومن ثم لا تسمح بإتاحتها للجميع لاعتبارات الأمن الذى هو فى حقيقته أمن السلطة والنخب التى تمارسها، والطبقات التى تجسد مصالحها تلك النخب .
فطبقات القاهرين التى تمارس السلطة القمعية بالسيطرة على وسائلها ، ليست بأفضل من طبقات المقهورين التى تمارس السلطة عليها ، فتلك القلة من الملاك سواء أكانوا إقطاعيين أو رأسماليين والساسة و العسكريين والبيروقراطيين من محتكرى السلطة ، ليسوا بالأفضل على أى نحو من الأغلبية المحرومة من السلطة الفعلية ، حتى يبرروا تحكمهم فيها ، وذلك باتخاذ القرارات التى تمس حياتها فى حين أنها مغلوبة على أمرها قهرا و خداعا وجهلا واضطرار.
وهاكم التاريخ البشرى بأسره ليبرهن لكم بعدد وقائعه و أحداثه على كم هى فاسدة وغبية وجاهلة وحمقاء وظالمة تلك الطبقات القاهرة عبر التاريخ ، والتى طالما ادعت نزاهتها وذكائها وعلمها وحكمتها وعدالتها أبواق الدعاية من منتجى المعرفة والفنون والآداب ، تلك القلة التى كم كيل لها من المديح ، ولاقت من الاحترام والتقديس والعبادة ما لا تستحقه ، وهى فى غالبيتها وجوهرها مجموعات من البلطجية و المجرمين والدجالين والسفاحين ، فالفرق بين قنبلتى ترومان الذريتين و هولوكست هتلر ، هو الفرق بين شرف جريمة المنتصر وعار جريمة المهزوم ! .
أليسا وأمثالهما مجرد زوائد طفيلية تمتص قوى المنتجين الفعلين للثروة والوعى الاجتماعى لمصالحها الأنانية ، فكم أهدرت طبقات القاهرين من موارد ومن إمكانيات للتطور ولرفاهية الأغلبية لصالح أهواءها ضيقة الأفق ، وكم من جرائم ارتكبتها لتحافظ على مركزها ونفوذها وامتيازاتها واستغلالها لتلك الأغلبية ، وكم ما سببته أنانيتها الوحشية من مآسى و أهوال للأغلبية المغلوبة على أمرها ، وكل التاريخ المكتوب لا يبرهن وعلى أى نحو على صحة ما تدعيه من أنها تعبر عن المصلحة العامة ، بل على عكسه تماما ، فلمصلحة من كانت كل تلك الحروب التى شهدتها البشرية ومات وجرح وأسر فيها بلايين البشر ، ولمصلحة من دمرت مدن وقرى وتمت تسويتها بالأرض ، ولمصلحة من لوثت أنهار وبحيرات و بورت حقول وحرقت غابات ومراعى بما لا يمكن حصره ، ؟ ولمصلحة من أخذ بلايين البشر الفقراء والمقهورين فى تشييد المعابد الهائلة ، والقلاع الرهيبة ،والأهرامات الشامخة ، والأسوار العظيمة ، والقصور المنيفة ، وخلال آلاف السنين فى حين كانوا يعيشون فى أكواخ الطين والبوص ، ولمصلحة من لوثت البيئة حتى أصبح الكوكب الذى نعيش عليه مهدد بأن يصبح غير صالح للحياة ؟، ولمصلحة من يستنفذ سباق التسلح الثروة الطبيعية والبشرية فى حين يتلظى الملايين تشردا ا؟، ولمصلحة من ترمى المحاصيل فى البحار للمحافظة على سعرها فى حين يتضور الملايين جوعا ؟ أليس كل هذا لمصلحة أقلية أنانية وجشعة ولا أخلاقية فى حقيقتها برغم ما تتشدق به من قيم عليا وتتغلف فيه من إدعاءات عقلانية ، فأنها لا ترى أبعد من قدميها. لا ترى أنها مثل ضحاياها فقدت حريتها وأمنها بمجرد أن تسلطت عليهم سواء أكانت إقطاعية أم بيروقراطية أم رأسمالية .
وهل تكفى الضرورة الاجتماعية التى تحكم التطور الاجتماعى ، لتبرير أو تفسير كل تلك الحماقات التى لا علاقة لها بتطوير قوى الإنتاج باعتباره السبب الجوهرى للتقدم الاجتماعى ؟.فما هو الذى يساعد على تطوير قوى الإنتاج باعتبارها قاطرة التطور الاجتماعى ؟ سوء إدارتها و تدميرها وتبذيرها وإهدارها ، أم الاختراع والإبداع والعلم والعمل البشرى .من ساعد فعلا على تمدين البشرية وتقدمها ؟ إبادة الهنود الحمر واسترقاق الزنوج أم قوة الإبداع البشرى ذهنيا لدى العلماء والمخترعين ، وبدنيا لدى العمال والمهنيين والحرفيين .
فالسلطة ومصادرها المختلفة ليست مفسدة لمن يملكها ويحوزها ويسيطر عليها فقط ، فهى مفسدة أيضا للمحرومين منها ، فالغالبية الساحقة من الشرور والجرائم الإنسانية على جانبى المجتمع المنقسم على نفسه لطبقات ، هى الابنة الشرعية لهذا الانقسام الناتج عن احتكار الأقلية للسلطة ومصادرها ، فالتكالب على الثروة والخوف عليها والرغبة فى زيادتها من جانب ، مثلما الحرمان منها من جانب آخر سواء بسواء ، يشوه كلا الطرفين المالك والمحروم ، ويطلق كل الشرور والآثام التى تدور فى غالبها بهدف الحصول على الثروة ، كما يشوه العنف القاهر والمقهور ، المنتصر والمهزوم ، الجلاد والضحية، ما بين غرور القوة وزهوها ، وانسحاق الضعف وخوفه ، يتولد أسوء ما فى البشر .
وقد حاولت البشرية عبر تاريخها المكتوب بالوعظ والفلسفة والقانون والدين والتربية أن تصلح ما أفسدته السلطة ومصادرها ، وما فلحت فى ذلك ولن تفلح ما دامت تصر على معالجة أعراض المرض لا أصله ، فالشر مثلما الخير ليس فطرة بشرية جبل عليها البشر ، و إنما هو صناعة اجتماعية ، فالبشر أبناء ظروفهم وبيئتهم الاجتماعية . حتى أن بوذا نفسه كان يرى أن منهجه الفلسفى والأخلاقى الذى يهدف لتخليص الحياة البشرية من الألم والوصول بها إلى السعادة الكاملة ، يستلزم نظام اجتماعى يساعد البشر على اتباعه ، فكل وصايا بوذا عن عدم إيذاء أى كائن حى ورفض العنف ، وعن عدم التكالب الوحشى على الثروة وملذات الحياة ، لم تمنع البوذيين عن مخالفتها وارتكاب كل الجرائم التى تخالف هذا المذهب فى أصوله ، لأنهم لم يعرفوا نظاما اجتماعيا يساعدهم على ذلك ، وقد تحولت البوذية فى النهاية لمؤسسة كهنوتية فى خدمة محتكرى السلطة لتبرر تسلطهم وقهرهم واستغلالهم للأغلبية المنشغلة بالخرافات التى أبعدتهم عن جوهر الفكرة البوذية الأصيلة التى لا علاقة لها فى الحقيقة بالغيبيات . وليس هذا بغريب على السلطات القمعية عبر التاريخ إن لم يكن من ضرورات وجودها واستمرارها ، فقد حولت الستالينية ضريح لينين لما يشبه المزار الدينى ،ونشرت تماثيله وصوره فى كل مكان ،وأصبحت زيارة الضريح بمرور الوقت طقس شبه دينى .
وعلى العموم فالشرور التى تسببها السلطة القمعية أكثر بما لا يقاس مما تدعى أنها ما قامت إلا لتمنعه.
ما يجب أن نعلمه هو أن اللاسلطوية الجماعية ترتكز على الرفض الكامل لمجموعة من الأساطير هى :-
أولا:- أن الدولة ضرورة اجتماعية مطلقة لضمان سير المجتمع وتماسكه وحمايته من أعدائه الداخليين والخارجين عن قوانينه وقواعده ، وأعدائه الخارجيين من الطامعين فى السيطرة عليه وغزوه ، وحماية غالبية المواطنين الصالحين والطيبين من القلة الضالة والمنحرفة والخارجة عن السيطرة والقانون . وأن المشكلة ليست فى السلطة القمعية فى حد ذاتها ، ولكن فيمن يمارسها ، وكيف يمارسها ، والحقيقة أن السلطة تفسد من يمارسها ، ولو خلصت نيته وحسنت أخلاقه . و أنه من الخيالية أن نرتكن لوهم أن تحكمنا الملائكة البشرية التى لم يخبرنا التاريخ أنها حكمتنا من قبل ، فحتى لو حكمتنا فستتحول لشياطين بمجرد إحساسها بدفء مقاعد السلطة ، والسلطة تقمع وتشوه من تمارس عليهم مثلما تشوه وتفسد من يمارسوها . وهذا لا يعنى إنكار أن البشر فى أمس الحاجة دائما لتنظيم يضمن تعاونهم ، وينظم نشاطهم الجماعى لتلبية احتياجاتهم المشتركة دون أن يقمعهم ودون أن يتعالي عليهم ، وهو أمر مختلف تماما عن السلطة التى تقهرهم رغما عن إرادتهم ، ومن خارجهم ، فهناك فرق بين سلطة إدارية تمارس للتنظيم ، كسلطة رجل المرور فى الشارع ، وسلطة قبطان السفينة فى أعالى البحار ، وسلطة الطيار فى طائرته ، وبين السلطة السياسية القهرية والمتعالية والمنفصلة عن البشر التى ترفضها اللاسلطوية الشيوعية. وهذا الرفض لا يعنى أن اللاسلطوية الشيوعية ضد تنظيم المجتمع عبر هيئاته التفويضية المنتخبة ، و اللاسلطوية الشيوعية بالضرورة مع وجود قوة رادعة و قامعة للاعتداءات المخلة بأمن الناس وحريتهم وحقوقهم .
ثانيا:- أن الديمقراطية التمثيلية النيابية هى أقرب شكل ممكن لممارسة السلطة يضمن الحرية للبشر ، وما هى فى الحقيقة سوى مجرد إعطاء الأغلبية الحق فى أن تذهب بشكل دورى لتختار من بين السياسيين الذين يمثلون النخبة الحاكمة من سيمارس عليهم السلطة وباسمهم ، فى تمثيلية لا تنطلى إلا على السذج ، فمن يملكون أى من مصادر السلطة ، هم وحدهم القادرين واقعيا على الفوز فى الترشيح للمجالس التمثيلية الذى يكتفى المحرومون منها واقعيا بمجرد حقهم القانونى والشكلى فى الترشيح ، فليس لهم سوى اختيار أى من هؤلاء المرشحين سيمثلهم لعدة سنوات ، معتمدين فى اختيارهم على مدى تأثرهم بالدعاية الانتخابية التى تملك وسائلها النخب الحاكمة والمالكة التى يمثلها هؤلاء المرشحين . وهى شكلية كذلك لأن النخب السياسية سواء فى الحكم أو فى المعارضة تحتكر وحدها دون الجماهير الناخبة كل وسائل التأثير على عقول تلك الجماهير ، والمحجوب عنها المعرفة والمعلومات الضرورية ، والخاضعة لعملية تشكيل للعقل وتوجيهه إلى ما تريده هذه النخب ، التى تتنافس فيما بينها فى لعبة كراسى موسيقية ، لتبادل مقاعد الحكم و المعارضة ، فبطاقة الاقتراع بين أيدى شعب أهمل تثقيفه عمدا ، وتتسلط عليه أدوات غسل العقل وتعليبه ، و صناعة الوعى وتشكيله ، ليست سوى حيلة ماكرة لإنتاج وتجديد إنتاج أرستقراطيات حاكمة مقنعة بالتمثيل الشعبى الكاذب ، مهمتها أن تحافظ على مصالح ملاك الثروة.
ثالثا:- أننا يجب أن نمر بمرحلة انتقالية مؤقتة نحو المجتمع اللاسلطوى الشيوعى، تقوم فيها الدولة الاشتراكية ، كإله جديد يحتكر كل السلطة ومصادرها باسم الأغلبية التى تقع فى العبودية لمن يملكون السلطة الفعلية من الساسة والبيروقراطيين والعسكريين ، والدولة الاشتراكية هنا مؤسسة كلية القدرة والجبروت تسحق كل الخاضعين لسلطانها الشامل بأسوأ مما تفعله الدولة البورجوازية ، وهى تستند لمطلق مجرد ومثالى جديد هو الطبقة العاملة ، يبرر السلطة الواقعية لأفراد ونخب تسيطر فعليا على مصادر السلطة دون من تدعى تمثيلهم ، ومن ثم تنفرد بممارستها ، فمن يحوز على السلطة ومصادرها لا يتنازل عنها بل لابد وأن يدافع عن ما يحوزه بكل الوسائل الممكنة مهما بلغت شراستها ، ومهما كانت أفكاره ونواياه المعلنة ، فأنه مضطر لخيانتها لمقتضيات الحفاظ على موقعه فى السلطة ، هذا ما أثبتته وقائع التاريخ فى الدول التى كانت تدعى بالاشتراكية ، وما يبرهن عليه المنطق ، فالبشر الأعلى ليسوا بملائكة حتى يتنازلوا عن امتيازاتهم ونفوذهم بمحض إرادتهم دون أى ضغط من من هم أسفلهم من البشر  .
ومن هنا فالتحرر النهائى لكل البشر يعنى أن يسيطر كل البشر، جماعيا وعلى قدم المساواة على كل مصادر السلطة القمعية ، بالسيطرة الجماعية على مصادرها المختلفة الثروة والعنف والمعرفة ، عبر تنظيم اجتماعى مختلف جذريا عن ما نعرفه من مجتمعات مؤسسة على انقسام المجتمع بين من يملكون أو يسيطرون على السلطة ومصادرها ، وبين من لا يملكونها أو يسيطرون عليها . ومن ثم فاللاسلطوية الشيوعية تعنى فى المقام الأول القضاء على تسلط الأقلية على الأغلبية بالقضاء على احتكارها للمصادر المادية للسلطة. والقضاء على احتكار السلطة لا يعنى الفوضى وغياب النظام ، و لا أن يعيش الأقوياء على حساب الضعفاء ، ولا إطلاق الشرور البشرية الأنانية من عقالها ، ولا التحلل الأخلاقى و الانفلات السلوكى كما يتصور البعض ويحبون ، كما لا يمكن أن يأتى التحرر عن طريق الإرهاب والعنف ، لأن من يمارسهما يحتكر مصدر هام للسلطة يفرض به مشيئته على من لا يملكه ، وهى إمكانية يحتكرها البعض بطبيعتها ، فليس كل إنسان قادر على ممارسة العنف ، سواء نفسيا أو بدنيا ، ومن ثم فهى ليست وسيلة للتحرر بقدر ما هى وسيلة لإحلال نخبة حاكمة محل أخرى ، ف اللاسلطوية الشيوعية هى القضاء على قانون الغابة الحاكم لتاريخ البشرية رغم تحضرها ، والذى ينص على أن من يملك وسائل العنف قادر على فرض إرادته على من لا يملكوه . ف اللاسلطوية الشيوعية على العكس من كل هذا ، هى تنظيم اجتماعى يضمن أعلى درجات الحرية والعدالة والمساواة بين أفراده ، مما يتيح لهؤلاء الأفراد أن يمارسوا وعلى نحو فعلى كل المثل العليا الإنسانية التى تكبحها وتشوهها البنية السلطوية والطبقية والهرمية فى المجتمعات البشرية ، ومن ثم لن يتحقق هذا التنظيم سوى بفعل جماعى لجماهير البشر الواعية بما تفعله ، ومن ثم فاللاسلطوية الشيوعية تتبرأ من الخيالية والجمود والمثالية كما تتبرأ من الإراديـة والعنف ، و مرجعيات التمثيل لكيانات و أفكار مطلقة ومثالية ومجردة ، فهى مجرد مبادئ تحدد الإطار العام لمجتمع المستقبل تاركة التفاصيل للجماهير لتصنعها بنفسها عبر تحركها الواعى المنظم ، عبر التجربة والمناقشة الحرة . وعبر عملية تحررها الذاتى .
* و اللاسلطوية الشيوعية تختلف مع اللاسلطوية الرأسمالية التى تكتفى بالحريات والحقوق الفردية السياسية والمدنية ، ، فطالما مورست تلك الحقوق والحريات ، وهناك من يحتكرون مصادر السلطة المختلفة دون سواهم فهى لا تعنى شيئا إلا لمن يملكون السلطة ، ومن ثم فالتحررية الرأسمالية تحررية زائفة وفارغة المضمون ، و شكلية فى حقيقتها ، فلا حرية بين البشر دون أن يتساوى الجميع فى الفرص و ظروف الحياة ، وتلك المساواة فى الفرص لا تعنى إهدار التمايزات والاختلافات بين الأفراد ، بل تتيح لهم إبراز تلك التمايزات والاختلافات على قاعدة من عدالة الفرص المتساوية للجميع ، وهذا غير ممكن طالما هناك من يملكون أو يسيطرون على الثروة ، وهناك من لا يملكونها أو يسيطرون عليها ، ولا حرية طالما كان هناك من يسيطر على وسائل العنف دون الآخرين ، وطالما كان هناك من يحتكر وسائل المعرفة دون البعض ، وانه مهما كانت التمايزات و الاختلافات بين الأفراد فأنها لا تبرر لقلة منهم أن تحتكر السلطة ومصادرها دون سواهم ، و أن المساواة فى السلطة ، ومن ثم مصادرها لا يعنى عدم احترام القدرات والمواهب والتخصصات الفردية ، بل يتيح لها التحرر من أسر التفاوت فى السلطة والثروة ، وقهر العنف والحاجة والجهل.
* وتختلف اللاسلطوية الشيوعية مع الاشتراكيات السلطوية المختلفة ،إصلاحية كانت أو ثورية ، والتى فى حقيقتها شكل من أشكال العبودية للدولة ، يفرض على الأغلبية لصالح استمرار احتكار البيروقراطية للسلطة ومصادرها . فالبشر يحتاجون للحرية بقدر احتياجهم للعدالة ، و لن يكسبوا الكثير حين يتحررون من الرأسماليين ليسلموا أنفسهم عبيدا للبيروقراطيين . وحين يضمنون الخبز فى مقابل حريتهم فأنه من السهل جدا أن يخسروه . و اللاسلطوية الشيوعية وإن كانت تقدر أبلغ التقدير الماركسية كتراث فكرى عملاق ، إلا أنها تختلف مع التفسير السلطوى اللينينى لها ، و تختلف مع فرضيتها الأولية بضرورة الدولة التى تتركز فى يديها السلطة ومصادرها المادية كمرحلة مؤقتة وانتقالية لمجتمع يقوم على نفس المبادئ والأهداف اللاسلطوية الشيوعية. وتعتقد اللاسلطوية الشيوعية أن المرحلة الانتقالية المطلوبة ليست دولة من نوع جديد بل هى الثورة نفسها باعتبارها عملية مزدوجة من هدم القديم وبناء الجديد.
التنظيم الاجتماعى الذى يكفل التحرر الحقيقى للبشر ، يتأسس على الملكية الاجتماعية لكل من وسائل الإنتاج والعنف والمعرفة ، باعتبارها مصادر السلطة المادية . و يقوم من ناحية أخرى على احترام حقيقة تفرد الإنسان كفرد له سماته وشخصيته الفريدة ، والذى تتعدد أبعاد شخصيته ، بسبب مورثاته البيولوجية و مكتسباته الاجتماعية وخبراته التاريخية وقدراته الخاصة . تماما مثلما يجب أن نحترم حقيقة تميز الجماعات البشرية المختلفة ثقافيا ودينيا ولغويا . أن هذا الكائن الإنسانى الفريد متعدد الأبعاد والأنشطة والرغبات والاهتمامات والانتماءات ، يأتى إلى العالم مكبلا بالعديد من القيود الذى لا دخل له فيها ولا اختيار ، سواء الوراثية أو الاجتماعية ، مجبرا على اكتساب مورثاته وجنسه و لغته وثقافته وعقيدته وعاداته وتقاليده ومجمل وعيه . ومن ثم فيجب لتحريره أن يكون له الحرية فى أن ينضم طوعا طالما قارب سن الشباب ، إلى جماعة بشرية معينة تقوم بنشاط محدد ، ليتعاون مع أفرادها فى تلبية احتياجاتهم المشتركة عبر هذا النشاط . ومن ثم تتعدد الجماعات التى ينضم لها الفرد بتعدد أنشطته واهتماماته وأبعاده ورغباته وانتماءاته .
يبدأ بناء المجتمع اللاسلطوى بتحرر إرادة الفرد العاقل والبالغ بالطبع ، فى أن يحدد ما يود ممارسته من نشاط ، وما يود أن ينضم إليه من جماعات ، وما يدخل فيه من علاقات اجتماعية مختلفة ، وبالطبع تتنوع الجماعات من إنتاجية ومهنية واستهلاكية وسكانية و خدمية وتعليمية وثقافية واجتماعية ودينية لتشمل كل أوجه النشاط البشرى ، ومن هنا تتعدد انتماءات الفرد و أنشطته وعلاقاته الاجتماعية المختلفة و تتحدد وفق إرادته. ويقوم المجتمع اللاسلطوى على شبكة تحتية من تلك الجمـاعات الأولية المتباينة الأنشطة بتباين النشاط البشرى ، والتى تنشأ لتلبى الاحتياجات البشرية المختلفة ذلك لأن البشر ليسوا مجرد حيوانات منتجة فحسب أو مجرد مقيمين بمكان ما فقط ، ومن ثم لا يمكن بناء المجتمع البشرى على جانب واحد من نشاطهم بل يجب أن يبنى مراعيا تعدد جوانب شخصيتهم و أبعادها ومن ثم تتعدد الجماعات بتعدد جوانب الشخصية .
وفيما يتعلق بتنظيم شئون تلك الجماعة فهو كالتالى :-
لما كان كل نوع من أنواع النشاط البشرى يلزمه أساس مادى لممارسة النشاط من مصادر السلطة المختلفة حسب الحالة ، فيكون للجماعة حق الانتفاع على نحو متساو بين أعضاءها بكل مصادر السلطة المرتبطة بممارسة نشاطها فحسب ، ويبقى للأعضاء دائما حق تملك مقتنيات لاستعمالهم الشخصي .
و تتأسس إدارة الجماعة على الديمقراطية المباشرة ، التى تعنى أن كل ما يتعلق بنشاط الجماعة و أفرادها فيما يتعلق منه بنشاط الجماعة ، يحق لكل أعضاء الجماعة مناقشته و اتخاذ قرارا بشأنه على نحو ديمقراطى. وعلى الجماعة تفويض من تراهم من مختصين فى الأمور التى يحتاج تقريرها إلى مختصين ، ويحق للجماعة مراقبة هؤلاء المفوضين ومحاسبتهم وتكلفيهم وسحب التفويض منهم فى أى وقت إذا ما أخلوا بوظائفهم . ومن ثم تنقسم القرارات إلى قرارات سياسية يتخذها أعضاء الجماعة ديمقراطيا ، وقرارات إدارية و فنية وتنفيذية يتخذها المختصون الذين تفوضهم الجماعة فى حدود اختصاصهم . كما أن هؤلاء المفوضين لا يحصلون من الجماعة على أكثر مما يحصل عليه العضو العادى مقابل أداء خدماتهم .
اللاسلطوية الشيوعية لا تعنى عدم احترام المعرفة والعلم ، ومن ثم التخصص والموهبة والقدرة الفردية ، ولا تعنى عدم احترام النظام و القواعد . وبناء على ذلك فلكل جماعة أن تحدد القواعد التى تنظم أوجه نشاطها ، وأن تعاقب أى عضو من أعضاءها يخرج عن هذه القواعد والنظم التى حددوها بأنفسهم ، أو قبلوها مع انضمامهم للجماعة ، وأن تفصل فى الخلافات التى قد تحدث بين الأعضاء ، والمخالفات التى قد يرتكبوها.
ومن هذه الجماعات الأولية التى تشكل خلايا المجتمع البشرى ، تتشكل اتحادات متنوعة بتنوع النشاط البشرى فيما بين الجماعات المختلفة أو المتشابهة ، وذلك من أسفل إلى أعلى ، لتلبية احتياجات ومصالح بشرية أكثر اتساعا تهم قطاعات أوسع من البشر ، عبر الاتحاد بين الجماعات والاتحادات المختلفة من مستوى الاتحادات المحلية وحتى الكوكب بأسره ، فتنشأ اتحادات على أسس جغرافية ، وأخرى على أسس اقتصادية أو مهنية أو خدمية أو ثقافية أو دينية أو قومية .. الخ . تلك الاتحادات تقوم على الانضمام الطوعى للجماعات والاتحادات المختلفة عبر مفوضين منتخبين من تلك الجماعات والاتحادات ، والتى يحق لها مراقبة هؤلاء المفوضين ومحاسبتهم وتكليفهم وسحب التفويض منهم فى أى وقت إذا ما أخلوا بوظائفهم ومقتضيات تفويضهم .
ومثلما يحدد أعضاء الجماعات القواعد التى تلزمهم فى ممارسة نشاطهم الجماعى ، تحدد الجماعات والاتحادات القواعد الملزمة التى تنظم نشاطها الجماعى ، وأن تعاقب المخالفين لتلك القواعد ، و أن تفصل فى الخلافات التى قد تحدث بين الجماعات والاتحادات المختلفة.
ويبقى أن أشير إلى:
أولا :- إذا كانت عضوية الأفراد للجماعات وعضوية الجماعات للاتحادات طوعية ، فأن حق الانفصال مكفول للأفراد من الجماعات ، والجماعات من الاتحادات . وبالطبع فحق الأفراد فى تكوين الجماعات المختلفة ، والاتحادات حرية مكفولة للجميع.
ثانيا:- أن حقوق سلطة التفويض هى حقوق إدارية و تنفيذية وتنظيمية ، وليست سياسية ، فالمفوضين ملزمين بالإرادة السياسية لمفوضيهم ، كما أنه لا امتيازات لهم بسبب أداءهم لوظائفهم .
ثالثا:- من الطبيعى أن أى سلوك أو نشاط سواء فردى أو جماعى يعرض أمن الناس وحريتهم وحقوقهم للانتهاك والخطر ، لابد و أن يواجه بالردع أو العلاج اللازم عبر القواعد القانونية الملزمة للجماعات والاتحادات .
رابعا :- اللاسلطوية الشيوعية مشروع أممى ، ومعادي لكل الحركات السياسية القائمة على أساس قومى أو دينى أو عنصرى ، مشروع يهدف لتحرير كل البشر على ظهر الأرض ، و لا يعترف بشرعية أى حدود جغرافية أو انفصالية بين البشر بسبب اختلاف قومياتهم أو أديناهم أو ثقافاتهم أو أجناسهم أو أعراقهم أو لغاتهم . ويعتبر أن هذا التحرر غير ممكن إلا على مستوى الكوكب بأسره ، و يرى أن الحل لمعظم مشكلات البشرية الآن ، ولكى تتخلص من حماقتها وشرورها ، هو بناء مجتمع لاسلطوى يضم كل البشر وبصفتهم بشر فحسب على تلك الأرض وطنهم الوحيد ، وملكيتهم الجماعية المشتركة ، وقاربهم الذى يسبحون به فى الكون اللانهائى ، بعيدا عن كل ما يفرقهم على أساس عنصرى بغيض .
هذا هو الإطار العام لأهداف اللاسلطوية الشيوعية ومبادئها ، الذى يحمل بداخله إمكانيات الاختلاف فى التفاصيل بين متبنيه .
الممارسة
اللاسلطوية الشيوعية حركة ثورية لا تستهدف الوصول للسلطة السياسية من أجل تغيير الواقع ، بل تستهدف هدم كل سلطة قمعية منفصلة عن الجماهير . تستهدف أن تحرر الطبقات المقهورة نفسها ذاتيا ، ، عبر فعلها الجماعى الواعى المنظم ، لا أن تحـل هى محل تلك الطبقات لتصنع لها ، و عبر قمعها أو إدعاء تمثيلها ما تظنه أنه يحررها ، و لا أن يتحول ممثليها لنخبة حاكمة أخرى تحتكر السلطة وأدواتها ، و لذلك فهى تختلف فى ممارستها لتغيير الواقع الاجتماعى عن كل الحركات الثورية السلطوية ، فهى تؤمن بالتحرر الذاتى للطبقات المقهورة كوسيلة وحيدة للتحرر النهائى لكل البشر ، فالثورة الاجتماعية قد يصاحبها انقلاب فى السلطة ، لكنها عموما عملية أوسع نطاقا وأعمق امتدادا من مجرد أن تستولى نخبة ثورية سواء بدعم الطبقات المستغَلة والمقهورة أم بغير دعمهم على السلطة ، وأن تحل نخبة ثورية بدلا من نخبة رجعية فى الحكم . وبناء على ذلك فالثورة اللاسلطوية الشيوعية ، ثورة اجتماعية تندلع من أسفل إلى أعلى ، بهدف بناء اجتماعى مغاير على نحو جذرى لكل ما هو معروف من مجتمعات ، بناء يتم من أسفل لأعلى ، وهو ما لا يمكن تخيله إلا كفعل جماعى منظم للطبقات المقهورة الواعية بما ولماذا وكيف تفعله ، وهو الأمر المرهون بتغير جذرى فى وعى تلك الجماهير ، ذلك التغير مشروط بظروف مادية تدفع الجماهير المحكومة للتفكير على نحو مستقل عن ما تقدمه لها السلطة من وعى ، وهو ما لا يد لنا فيه ، وظروف ذاتية تسمح بتقديم وعى بديل يدفع تلك الجماهير للفعل الجماعى المنظم نحو التغيير ، وهذا هو دورنـا الوحيد .
ولكن كيف يحرر المقهورين أنفسهم ذاتيا ؟
لدينا إطار من الأهداف ، ولدينا واقع اجتماعى نريد تغييره فى هذا الإطار ، ومن ثم لابد أن تكون لدينا الوسائل الكفيلة بهذا التغيير ، و بما يتلاءم مع الأهداف ولا يتناقض معها ، وهو ما وقعت فيه الاتجاهات الماركسية السلطوية ، وأورثها الفشل .
لا شك أن ثمانية ألف عام من الاستغلال والعنف و القهر وصناعة الوعى الموجه لمصلحة الطبقات القاهرة ، تركت أثارها العميقة على وعى وسلوك الطبقات المقهورة ، مما أورثها نفسية المقهورين وما أدراك ما هى تلك النفسية ؟ فلا يظن أحد ، أن الهدف من التحرر من القهر والاستغلال ، هو مجرد التعاطف مع المستغَـلين والمقهورين والفقراء ، وليس مجرد الهاجس المبتذل الذى يقدمهم كملائكة لا تنقصها سوى الأجنحة ، فى حين يقدم الطرف الآخر كشياطين لا تنقصها سوى القرون . فالدافع الأخطر والأهم لنضالنا ، هو أن القهر بقدر ما هو تقييد للحرية وبقدر ما هو وسيله للاستغلال بقدر ما هو تشويه نفسى وعقلى لكل من القاهر و للمقهور ، فالعبيد لابد وأن يكذبوا وينافقوا ليضمنوا البقاء ، وأن لا يفكروا فحسب سوى فى طاعة و إرضاء سادتهم ، وهم قد ينتظرون لحظة التحرر لكى يمارسوا ما عانوا منه سابقا على عبيد آخرين ، فقد انسحقت شخصيتهم لصالح السادة ، وتمثلوا مقلوب شخصية سادتهم ظاهريا فى انتظار اللحظة التى يتمثلوها كاملة هى نفسها على من هم أدنى ، وإذا كان للسادة وسائلهم فى الإخضاع ، فللعبيد وسائلهم فى الاستفادة من وضع الخضوع ، و قس على ذلك الشعوب التى يتم استعمارها ، ومعظم النساء فى المجتمعات الذكورية اللواتى يكن أكثر محافظة على القواعد الاجتماعية التى تقهرهن من كثير من الرجال الذين يقهروهن . ويتجلى هذا الوضع بأوضح ما يكون فى المؤسسات الحكومية والعسكرية القائمة على التنظيم الهرمى ، فمن هم فى منتصف الهرم ما بين قمته العليا وأدنى قاعدته ، يمارسون القهر والسيادة والتسلط والتعالى على من هم أسفل ، فى حين يتحولون فى علاقاتهم بمن هم أعلى إلى مقهورين وخاضعين وكاذبين ومنافقين ومخادعين وهكذا.هذا عن أثر القهر والإخضاع ، أما عن الفقر والحرمان وذل الحاجة للبقاء ، فلا يقل عن أثر القهر ، ومثله مثل الرغبة فى الثروة لتفادى الفقر والحرمان ، بل وزيادتها إن وجدت فرصة ، وذلك للارتفاع درجة أو درجات فى اتجاه أعلى هرم السلطة التى تتيحه زيادة الثروة ، أو الخوف من الهبوط درجة أو درجات فى اتجاه أسفل الهرم لو فقد بعضا من الثروة . فكليهما يتسبب فى تشويه الوعى والنفس والسلوك الإنسانى كل بطريقته ، فمن هنا تتولد معظم الجرائم والشرور التى عرفتها البشرية. و إلا لماذا يسرق البشر و يخونون و يقتلون ويكذبون .. الخ ؟ أليس لتلك الأسباب بشكل مباشر أو غير مباشر .
إن ثمانية ألف عام احتكرت فيهم الطبقات المالكة والحاكمة وسائل إنتاج الثقافة والمعرفة والوعى ، لتضمن بقاء الخاضعين لحكمها ، كحملان وديعة مستسلمة لأقدارها ، لا تتمنى سوى إرضاء من يرعاها ، وتعتبره قمة الشرف ، قد تركت آثارها العميقة على وعى المقهورين والمحرومين ، بما لا يمكن إزالته بمجرد كلمات تقال لتلك الجماهير ، فنحن نتلقى وعينا بكامله من المجتمع ، عبر الأسرة والتعليم والفنون والآداب والمؤسسات الدينية والإعلام وغيرها ، و لا قدرة لدينا على الاختيار والنقد والشك والبحث عن البدائل ، وكلها خاضعة لمن يملك السلطة يوجهها كيفما شاءت مصالحه فى البقاء.
تخلق أجهزة صناعة الوعى السائد من أسرة وتعليم وإعلام وثقافة ودين ، عقول نقلية وتقليدية و متعصبة لما نشأت عليه من ثقافة ، عقول نزعت منها القدرة على الشك والنقد والتمرد ، فلا تعرف سوى التعصب الأعمى للعادات والتقاليد والعقائد والأفكار التى رضعتها مع لبن الأمهات حتى أنها وهى تتمرد على كل هذا لاتفعله إلا على نحو متعصب ونقلى وجامد للفكر الجديد الذى اعتنقته ، ومن هنا عدم التسامح مع أو تفهم كل ما يخالف ذلك . بل والاستعلاء بالجهل بالآخر باعتباره ميزة ، والخوف من المعرفة به باعتبارها خطرة ، ومن هنا يأتى جمود العقل بالرضا بالوضع الراهن أو الفكر الذى تم الاستقرار عليه ، استسلاما له أو خداعا للذات بفضله .
عقول تحكمها العواطف والمشاعر العمياء بأكثر مما يحكمها الواقع وحقائقه، ويسهل عليها الانجذاب وراء الدعاية الديماجوجية و الإثارة العاطفية ، بأكثر مما تتأثر بحديث العلم . فمع أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية أشعل الإعلام المصرى الشارع المصرى بسرعة كما أخمده بسرعة ، وتعاطف العالم مع الفلسطينيين لصور شاهدوها على شاشات التلفاز ، إلا أن التعاطف تحول فى اتجاه آخر بمجرد مشاهدة صور أخرى ، فالإعلام الذى هو إعلان فى الأساس بمعنى أنه ترويج لسلع مختلفة مادية ومعنوية ، هو ساحر الأغلبية ، وموجهها لصالح من يملكوه ، وبعد ذلك مازال البعض يتحدث عن الديمقراطية المزعومة .
فاليساريون التقليديون دائما ما يملئون تحليلاتهم ، بالحديث عن قوى وعلاقات الإنتاج ، والطبقات والصراع بينها ، والثورة والسلطة السياسية ، إتباعا جامدا ومبتذلا ومحدود الأفق للتفسير المادى للتاريخ والمجتمعات ، وهو التفسير الصحيح وإن كان ليس كافيا من وجه نظرى ، إذ ينقصه الاهتمام بالوعى الاجتماعى وصناعة الوعى ، فالبشر ليسوا مجرد حيوانات منتجة و اقتصادية ، وهم حتى حين ينتجون وجودهم المادى ، فأن عامل الوعى والمعرفة يلعب دورا هاما فى إطار هذه العملية ، فبرغم العلاقات الرأسمالية السائدة ، فالشركة اليابانية تدار على نحو مختلف عن الشركة الأمريكية ، لاختلاف العامل الثقافى رغم استمرار القهر والاستغلال جوهريا فى الاثنين ، فإذا كانت المسألة بهذا التبسيط المخل الذى يمارسونه لكانت الثورة الاجتماعية قد أنجزت منذ زمن طويل .
فى لحظات معينة يصعب التنبؤ بها ، تندفع الجماهير المقهورة فى التمرد على السلطة ، تمردا عفويا ، حيث ينفجر بركان الغضب دون هدف واضح ، فكأنما كان هذا الخنوع والرضا واليأس والجمود يخفى وراءه تراثا عفويا عميقا من الإحساس بالقهر والاستغلال والظلم ، والرغبة المكبوتة والمضمرة فى الانفجار ، كانت تنتظر لحظة ما لا نفهمها جيدا و لا يمكن لنا توقعها على نحو دقيق ، ولكنه يكون انفجار أعمى ، بركان يثور على نحو مفاجىء ، ينفس عن كل ما تم كبته لسنوات ، ولكنه ليس بالضرورة قد يهدف لشىء سوى التعبير عن الغضب .
وفى هذا تفسيرات متعددة ، فيقول البعض أن سبب التمرد والثورة هو تدهور أوضاع الجماهير الاقتصادية ، وهو تفسير ضعيف فقد عرف البشر و لآلاف من السنين التضور جوعا وبؤسا وتشردا ، ولم يدفعهم هذا للثورة ، ويقول البعض الآخر أنها التوقعات والآمال المحبطة ، وهو تفسير نفسى لا يمكن التأكد منه علميا ، ويدعى البعض أنه تغير مفاجئ فى الوعى وهو أمر مشكوك فيه حيث لا يمكن أن تتكسر كل آلة الوعى القديمة لدى كل المقهورين ، وتظهر آلة جديدة تدفعهم للثورة بلا مبرر و لا سبب ، واعتقد أن كل هذه الأسباب وغيرها قد تكون صحيحة ، ولكن ليس كل على حدة ، ولكنها تتراكم على مدى زمنى متفاعلة فيما بينها حتى تحدث فعلها ،إلا أن هذا وإن كان كافيا لتغذية التمرد الإنفجارى بشكل عام ،  إلا أنه ليس كافيا لإحداث التغير الاجتماعى الذى تحدثه القوى الاجتماعية المنظمة و المرتبطة بوسائل وعلاقات الإنتاج الأكثر تقدما ، وهى ليست بالضرورة وحين تتحرك للتغيير الاجتماعى أن يكون دافعها البؤس أو الأمال المحبطة أو الوعى  .    وتلك العوامل الانفجارية ليست كافية فى حد ذاتها لتفسير فعل اجتماعى معقد ينتج كمحصلة للعديد من الأسباب المتفاعلة ، وأى ما كانت الأسباب الموضوعية التى تدفع للتمرد و الثورة ، فأنه حدث كثيرا ، و لا يوجد ما يمنع من تكراره عبر التاريخ البشرى ، إلا أنه فى كل مرة لم يؤد إلى التحرر النهائى من الوضع السلطوى ، فدائما ما تحل نخب جديدة بدلا من القديمة فى هرم السلطة مستخدمة جمهور المقهورين الغاضبين كوقود للتغيير ، و كروافع لوصولهم للسلطة ، وإن هذا الفعل نفسه هو القابلة التى أحدثت تطورات اجتماعية فى بعض الأحيان من نمط إنتاج لنمط إنتاج آخر ، وتغير فى شكل العلاقات بين الطبقات ، وكيفية ممارسة النخب الحاكمة للسلطة ، وأيضا وكنتيجة لكل هذا فى أشكال الوعى الاجتماعى السائدة.
و برغم كل ضعف المقهورين الظاهرى نظرا لفقدانهم السلطة ومصادرها ، إلا أن قوتهم الكامنة تتجلى فى لحظات التمرد والثورة ، كونهم منتجى الثروة المادية أساس حياة المجتمع من جانب ، وكونهم يشكلون غالبية السكان من جانب آخر ، كما أن هناك حدودا وشروطا لممارسة السلطة لا يمكن تعديها عند مقاومة السلطة لتمرد الجماهير وثورتها . وكأى صراع يسفر عن منتصر ومهزوم ، يتوقف نجاح أى طرف على مدى قدرته على كسر إرادة الطرف الآخر ، وذلك بتفتيت قوته واستنزافها أو شل فاعليتها ، ومن هنا قد ينجح المقهورين فى إزالة الطبقات الحاكمة ، وقد تنجح السلطة القديمة أحيانا فى الاستمرار بقمع الجماهير أو خداعها ، تاركة الجماهير لدورة جديدة من الخضوع و اليأس ، وتمثل وعى السادة ، ثم التمرد مجددا عندما تتفاعل أسباب التمرد . و المعضلة أن الطبقات المقهورة الآن ، ونظرا لافتقادها الوعى اللاسلطوى ، قد تنجرف أثناء تمردها وراء نخب سياسية ، تمتطى تمردها من أجل أن تصل للسلطة ، وتحكم باسمها وتقمعها ، خادعة إياها بأنها تمثلها ، وأنها ما أتت إلى مقاعد السلطة إلا لتلبي مصالحها ، وقد تنجرف الطبقات المقهورة وراء زعامة ديماجوجية ، تلهب حماسها وتغازل عواطفها مضللة إياها بالأساطير الزائفة والشعارات البراقة ، لكى تستبد بها فى النهاية وتروضها بالعصا و الجزرة . و فى النهاية فأن تذمر تلك الطبقات واحتجاجها لا يعنى دائما إنها على الطريق اللاسلطوى الشيوعى، فأوهام الديمقراطية النيابية ، والاشتراكية الإصلاحية ، و الدولة القومية أو الدينية ، والزعيم الملهم والمستبد العادل ، والتحرر القومى والاستقلال الوطنى ، و الاشتراكية السلطوية ، والفاشية ، والنقابية ، و حتى حلم التحرر الفردى . كلها تتنافس فى سوق الدعاية السياسية ، و الفرق بين مروجيها هو فى تنافسهم الشرس على المستهلكين أى سائر المقهورين ، والذين بواسطتهم يضمنون البقاء فى السلطة ، أو ينجحون فى الوصول إليها على أعناق جماهير المقهورين الذى أورثها تجهيلها وتضليلها المتعمد ، وعيا عميق الجذور لا يعبر عن مصلحتها الحقيقية فى التحرر . وهذا تهديد سيظل مستمرا لأى تمرد أو ثورة قادمة ، لا يمكن تلافيه ، إلا بإحداث تغيير جذرى فى وعى تلك الجماهير .
ومن هنا تأتى مهمة الحركة اللاسلطوية الشيوعية كحركة ثورية منظمة فى أن تتلافى هذا التهديد المقبل ، وبالتالى القدرة على تحويل التمرد العفوى لحركة جماهير واعية ومنظمة قادرة على تحرير نفسها ذاتيا ، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا إذا تحولت الحركة اللاسلطوية الشيوعية من حركة طلائع ثورية إلى حركة الجماهير نفسها ، وممارستها وتنظيمها من ممارسة وتنظيم محدودين بها ، لممارسة وتنظيم الجماهير ذاتها ، ووعيها لوعى الجماهير نفسها.
يختلف اللاسلطويون الشيوعيون جذريا مع النمط اللينينى فى الثورة ، ويعتقدون أن المركزية الديمقراطية كأساس للتنظيم الثورى الممثل للطبقة العاملة ، وفكرة تمثيل الطبقة العاملة نفسها ، ومهمة الحزب فى نقل النظرية والوعى للجماهير ، والإرادية فى الفعل الثورى بعيدا عن فعل الجماهير ، وهى كل ما يميز هذا النمط هى جذور استبداديته و نخبويته. هى أسس الدولة البيروقراطية المتسلطة ، التى لا تعنى بتحرير الجماهير بقدر المحافظة على مميزات بيروقراطيتها الحاكمة .
وعلى العكس من هذا ، يفترض اللاسلطويون الشيوعيون أنه وبالرغم من احتكار النخب الحاكمة لمصادر إنتاج وتوزيع المعرفة و الوعى ، فأن هذا الاحتكار ليس سدا مصمتا ، فهو و أن كان بناء هائل ، إلا أنه ورغم شموخه وصلابته الظاهرة ، فأن له ثغراته التى يمكن أن ينفذ منها أفراد يأتون من شتى الطبقات و الشرائح الاجتماعية المختلفة ، امتلكوا لأسباب متعددة تخصهم القدرة على التمرد على الوعى الرسمى السائد ونقده والشك فيه ، ومن ثم إنتاج وعى ومعرفة جديدة مخالفة لما هو سائد ، هذه الطلائع الثورية يتلخص دورها ومهمتها فى زيادة الثغرات وتوسيعها ، لتنفذ منها قطاعات من الجماهير تتسع باستمرار محولة الثغرات لفجوات ينساب منها الوعى الثورى الجديد بين غالبية الجماهير ليدمر سد الوعى القديم الجاسم على عقولهم .
تلك الطلائع وهى تؤدى مهمتها التاريخية تنتظم جماعيا بنفس قواعد و مبادئ المجتمع اللاسلطوى ، ومهمتها الأساسية هدم سد الوعى السائد نظريا ودعائيا ، مقدمة الوعى الجديد كبديل ثورى حقيقى . وهى فى ذلك تركز على فضح الأيديولوجيات السلطوية التى تقدم كبديل زائف وواقعى للوعى السائد . فدور اللاسلطويون الشيوعيون ومنظماتهم هو كسر الضلع الثالث والأضعف فى مثلث مصادر السلطة وهو المعرفة والوعى . وذلك بإنتاج الوعى البديل ، ونشره بكل الوسائل المتاحة . وهى عملية متعددة الجوانب بتعدد أشكال الوعى من بحث علمى وتحليل نظرى ، ودعاية وتحريض .الخ.
الثورة فى مفهوم اللاسلطويين الشيوعيين ليست انقلابا فى السلطة ، إنها عملية اجتماعية ، تقوم فيها الجماهير المتمردة والمنظمة على النسق اللاسلطوى ، بهدم بنية المجتمع القديم بما فيه السلطة القمعية ، لتبنى على أنقاضه ، مجتمعها الجديد ، وهى عملية تمارس فيها جماهير المقهورين سلطتها الجماعية ، وتبنى تنظيمها من أسفل إلى أعلى ، لتصادر الثروة من حائزيها لتحولها إلى الملكية الجماعية ، وتشل آله العنف بالعصيان المدنى الشامل ، وفى هذه العملية يقوم اللاسلطويون الشيوعيون بدور الإرشاد دون وصاية ولا إدعاء لتمثيل المقهورين أو قيادتهم ، مركزين على فضح الديماجوجين و التسلطيين للجماهير ، ومنعهم من الانحراف بالثورة عن الطريق اللاسلطوى . حتى تكتمل عملية الهدم والبناء ، لينتهى دورهم كجماعة ثورية .
ذكر إنجلز فى إحدى كتاباته أن الثورة هى أكثر الأعمال تسلطا وهذا بلا شك أمر بديهى ، فهى عمل تسلطى وقمعى ، إلا أنه يتم من السواد من الناس فى الحالة اللاسلطوية الشيوعية ، من الجماهير المنظمة وبوعيها غير الزائف ، وليس من قبل نخبة تتحدث باسم الجماهير ، وتدعى تمثيلها ، وتمارس وصايتها عليها ، كما فى النمط التسلطى للثورة . فهناك تفسيران للمرحلة الانتقالية اللازمة ، ما بين المجتمع الرأسمالى والمجتمع الشيوعى.
أولهما السلطوى الذى يفترض أنها دولة ديكتاتورية البروليتاريا الذى يمثلها الحزب الطليعى ، والذى تتركز في يدها كل مصادر السلطة ، والتى لابد وأن تؤول لبيروقراطية شمولية كما حدث فى الدول التى ادعت الاشتراكية .
ثانيهما اللاسلطوي الجماعى الذى يفترض أن المرحلة الانتقالية هى الثورة نفسها باعتبارها عملية تاريخية ممتدة وليست مجرد الانقلاب فى السلطة ، والتى تمارس فيها الجماهير المنظمة سلطتها الجماعية على الأقلية المتسلطة ، التى لا يمكن أن تسلم بامتيازاتها و بسلطاتها ومصادر سلطاتها دون هذا التسلط الجماهيرى الجماعى ، إلا أنه تسلط موقوت بعملية سحب تلك السلطات والامتيازات ، بمصادرة أو شل مصادرها ، و بشل قدرتها على مقاومة الثورة عبر الفعل الجماعى للجماهير الواعية ، وحماية بناء المجتمع الجديد الذى ما إن يتم بناءه ، تنتهى كل سلطة قمعية منفصلة ومتعالية على الجماهير.
وفى الطريق الطويل من نقطة البداية لنقطة النهاية الثورية ،على الطلائع اللاسلطوية أداء مهمتها التاريخية ليس بمجرد إنتاج الوعى ونشره ، ولكن بالانخراط فى كل نشاط يدفع المقهورين القابلين للتنظيم ليفكروا على نحو مختلف ، يدفعهم للتعرف على وعى بديل و لتنظيم أنفسهم على نحو لاسلطوى ، هناك الكثير من النضالات الصغيرة ، التى لابد وأن تتعلم منها الجماهير الثقة بقدرتها الجماعية على الفعل ، وعدم الثقة فى الأيديولوجيات السلطوية التى لا يجب التهاون معها على أى نحو.
إن الطريق اللاسلطوي للثورة ، هو الطريق الذى يشل آلة العنف عندما تواجه الكتلة المتراصة والصلبة لجماهير مصممة على تحقيق أهدافها ، بالعصيان المدنى الشامل و أشكال الاحتجاج السلمى ، وهو ما لا يمكن أمامه أن تفعل آلة العنف فعلها طالما مارسته غالبية المقهورين على نحو متماسك ومنظم ، فبالعصيان المدنى الشامل يتكسر الضلع الثانى من أضلاع السلطة ، والذى يحمى الضلع الأول ، وهو الثروة التى يسهل بعد انهيار أبواق دعايتها ، وشلل حماتها المسلحين مصادرتها. ويكتسب هذا العصيان قيمته فحسب عندما يصنعه المقهورين المرتبطين بأكثر وسائل الإنتاج تقدما .
هذه هى القواعد العامة التى تحكم الممارسة الثورية للاسلطوية، أمميتها الجذرية تمنعها من الاعتراف بالحدود القومية و أوهام التحرر القومى ، وثوريتها الجذرية تمنعها من التعلق بأوهام البرلمانية والإصلاحية والنقابية ، و تحرريتها الجذرية تجعلها ترفض كل تسلط و وصاية على البشر ، و احترامها الجذرى لتفرد الإنسان يجعلها ترفض جذريا سحقه وتذويبه وقمعه وقولبته وبرمجته وقهره ، و شيوعيتها الجذرية تجعلها ترفض الأنانية البورجوزاية ، وتمحور الفرد حول ذاته ومصالحه ، التى هى جوهر المثل السفلى الإنسانية ، ومن ثم تمارس لب المثل العليا الإنسانية القائمة على الجماعية والغيرية بغير ادعاءات . إنها طراز فريد من الحركات الثورية ، ترفض جذريا كل أشكال التلوث البورجوازى ، وتتسق أخلاقياتها وممارستها مع مجتمع المستقبل اللاسلطوي. فتشكل فى المجتمع الحالى أنويه مجتمع المستقبل ، فى علاقاتها وممارستها.
يبقى أن أشير إلى أن البعض من ممارسات بعض اللاسلطويين ، ومواقفهم إزاء الأخلاق لا ترضينى شخصيا ، كما أنى أرفض الفهم المغلوط لقضية الأخلاق من قبل بعض اللاسلطويون ، الأخلاق ضرورة اجتماعية ، ومادمنا نتحدث عن بناء مجتمع ، فلابد أن نفهم أنه لاغنى لهذا المجتمع عن الأخلاق لتحافظ على العلاقات بين أفراده ، فالحرية الفردية المطلقة إمكانية غير متاحة إلا نظريا ، لأن الإنسان حيوان اجتماعى نشأ أصلا عن علاقة اجتماعية بين رجل وامرأة ، والمجتمعات البشرية هى خلف طبيعى لسلف من قطعان من أشباه البشر ، ومن ثم فالأخلاق ضرورة إنسانية أيضا طورتها تلك القطعان كضرورة كى يستمر القطيع . اللاسلطوية الشيوعية لا تقوم فقط على أساس الضرورة المادية لتطور المجتمعات ، وتحقيق الحرية و الإخاء والمساواة فى حدودها القصوى ، وإنما تقوم كذلك على قيم أخلاقية ترفض استغلال الإنسان وقهره وخداعه ، ولا يمكن أن تنفصل الوسائل عن الغايات ، ولا يمكن أن تمارس القهر والاستغلال والخداع ، وتدعى أنك تناضل ضدهم ، وكسر ضلع الوعى البورجوازى يستلزم تكسير قيمه الفردية والأنانية والاستهلاكية والنفعية ، ليس بمجرد الشعارات ، ولكن بالممارسة الفعلية للبديل الثورى.
يبقى أن أشير إلى أن الفهم الملتبس لقضية الحرية ، يجعل العديد من اللاسلطويين يرفعون شعارات زائفة باسم الحرية ، تتناقض جوهريا مع هدف التحرر ، وتخدم استمرار احتكار السلطة ولا تقاومها إن لم ترسخها ، فيرفع البعض شعار حرية تعاطى المخدرات ومن ثم وبالضرورة الاتجار فيها بدلا من أن يناضلوا ضد الخمور والتدخين مثلا ، باعتبارها عوامل مدمرة لذات الفرد ومستعبدة لحريته وإرادته الحرة ، فأى حرية فى أن تكون مدمن للمخدرات أو الخمور ،ومن ثم يمكن السيطرة عليك بسبب سيطرة احتياجك لها عليك ، ولاشك أن هذه اللاسلطوية الزائفة تهدف لسيطرة تجار المخدرات على المدمنين بما يتعارض مع الهدف اللاسلطوي ، فاللاسلطوية الشيوعية يجب أن تقف ضد حرية تدمير الذات التى يروج لها البعض ، فالحرية المطلقة هى عبودية من نوع جديد للرغبة واللذة و لا تعنى تحرر حقيقى للإنسان .
خيالية القبول بالواقع ، وواقعية السعى لتغييره
سيتهمنا الكثيرين بالخيالية ، وقد نتشكك نحن أيضا فى مدى واقعيتنا ، فما نسعى إليه من أهداف يبدو بعيد المنال ، إن لم يبدو مستحيلا ، وفى الطريق إليها تتراص العقبات والعراقيل ، ومن ثم تبدو جبال الواقع عصية على التدمير ، ومن هنا يترسخ فى العقول منطق الرضوخ للواقع ، والقبول بالممكن والمتاح .إنه منطق لا يعترف بأن العمل الدؤوب الذى لا يعرف الكلل و اليأس ، يرى أن الجبال العالية من الممكن تدميرها بالتفتيت المستمر والمتواتر ، وهم لا يفهمون أن قطرات المطر الضعيفة حين تتساقط بانتظام مستمر تؤدى لتفتيت الصخور القوية ، وهو ما لا يمكن أن يفعله الجلوس تحت سفحها فى انتظار معجزة تفتيتها .
فأيهما أكثر خيالية حين نعرف أمراضنا، وحين نعرف أسبابها وعلاجها ، وحين نعرف أننا عاجزين حاليا عن العلاج ، نلجأ للمسكنات أو أن ننتظر الموت ، أو أن نحاول جاهدين الوصول للعلاج حتى لو استغرق هذا وقتا وجهدا ، ونحن ننتظر الحياة .
فأيهما الأكثر خيالية أن نظن أن الرأسمالية والأيديولوجيات السلطوية المختلفة المعبرة عنها ، ولأنها تبدو واقعية فى الظاهر و لأول وهلة، كفيلة بتحرير البشرية ومنحها العدالة والسلام والأمن والحرية والرفاهية ، أو أنها قادرة على إنقاذ البشرية من أخطار مؤكدة تسببت فيها الرأسمالية فى تطوراتها الأخيرة ، وأصبحت عاجزة على أن تقدم حلولها الإصلاحية تسكينا لهذه الأخطار . أم أن نسعى جاهدين لقلب هذا الواقع رأسا على عقب ، وهى العملية التى أصبحت ملحة للغاية .
فواقعنا المعاصر يواجه ظرفا محرجا يضعه أمام خيارين لا ثالث لهما ، إما اللاسلطوية الشيوعية أو البربرية . فالتهميش المطرد و الواسع النطاق لقطاعات ساحقة من البشرية ، والاتساع المطرد فى مستويات البطالة الهيكلية ، وتدمير البيئة مما يهدد الحياة على كوكب الأرض ، و التفاوتات المتسعة باطراد بين مستويات المعيشة والثروة والتقدم ، تقسم البشر لقسمين ، قلة مترفة وغالبية بائسة ، فضلا عن السيطرة غير المسبوقة لوسائل الميديا الحديثة بما تروجه من ثقافة استهلاكية وسطحية ، والتى تم بها غسل وقولبة وتخدير وتسطيح وتشويه عقول الجماهير و إدراكها ، مما أدى لاستفحال الطابع المبتذل للديمقراطية للبرلمانية ، التى تحولت لمهرجان إعلانى لا غير، نازعة آخر أثواب احترامها . فى نفس الوقت و مع كل هذه الظروف السيئة تتصاعد الفاشيات المختلفة ، و الأصوليات الدينية ، والحركات العنصرية ، وينطوى اليسار السلطوى بكل تلاوينه الإصلاحية والثورية ، مستسلما للرأسمالية الفجة والوحشية ، مستسلما لواقع عجز عن فهمه وتغييره ، متشبثا بواقعية زائفة ، هى فى حقيقتها الخيالية نفسها فى ثوب الواقعية . ذلك لأنه لا يرى إلا هدف السلطة التى أصبحت بعيدة المنال ، والتى أمام مقتضياتها يركع فى خشوع لعلها تقبله فى معيتها حتى ولو حساب مبادئه ، متنازلا باستمرار أمام مذبحها عن كل الذى كان يناضل من أجله .محتجا بالواقعية والمتاح والممكن .
أن من ينظرون للواقع بهذه الطريقة قصيرة النظر ، لا يفهمون كيف يتغير الواقع ، الذى لا يتغير فقط تدريجيا و على نحو كمي و غير محسوس ، ولكنه يتغير نوعيا أيضا وعلى نحو فجائى وملموس ، وبما لا يمكن أن يتوقعه أحد . ولما كان هذا التغير يستند لأسباب موضوعية كل ما علينا أن نكون على استعداد كامل لمواجهتها لأنه لا يد لأحد فيها ، وظروف ذاتية تحتاج لجهد بشرى من نوع خاص هو ما يمكن أن نؤديه ، وفق شروطه لو أردنا النجاح ، فأن كل ما علينا أن نؤدى عملنا لنصبح على استعداد للحظة التغيير .
فمن يستندون لواقعيتهم المزعومة مفضلين الممكن والمتاح رغم زيفه وعجزه ، لا يفهمون كيف يتغير التاريخ على نحو جذرى ، وعلى نحو لا يدركه حتى الحالمون .
فمن كان يتوقع أو يدرك أو حتى يحلم قبل عام571 ميلادية ، أنه وفى مدينة صحراوية ، ولد صبى يتيم ، أصبح راعى غنم فقير ثم تاجرا فيما بعد  ، وفى الأربعين من عمره صار نبيا ، و مؤسسا لديانة كبرى ، و مكافحا بيئة قاومته بشراسة وعنف على مدى أكثر من عشرين عام ، وفى الثالثة والخمسين مؤسسا لدولة ، ولم يكن عام 640 قد جاء بعد حتى أصبحت دولته أساس إمبراطورية عظمى على أنقاض إمبراطوريتين كبيرتين خلال خمسة عشر سنة من تأسيسها ، أى خلال سبعين عاما فحسب من مولده ، و لتكون خلافته حضارة عظمى هى الحضارة الإسلامية ، والتى تأسست نواتها على الديانة التى أسسها.
من كان يتوقع أو يدرك أو حتى يحلم ، قبل عام 1848 و حين صدر البيان الشيوعى ، ليفتتح الصفحة الماركسية فى التاريخ البشرى ، بكل ما تعنيه الماركسية من انقلاب جذرى سواء فى العلوم الاجتماعية أو الحركات السياسية ، أن يأتى عام 1917 ليرفع العمال الروس رايتها فى ثورة من أكبر الثورات فى العالم ، هؤلاء العمال الذين كان آبائهم و أجدادهم مجرد أقنان حتى عام 1861 ، فى ظل دولة كانت الأسوأ فى أوربا من حيث الاستبداد والرجعية والتخلف . فهل تعامل الثوريين الروس فى أوائل القرن العشرين ، وحتى اسقطوا العرش القيصرى العتيد فى 1917، بنفس منطق الواقعية الزائف، أم بمنطق مختلف ساعدهم على الانتصار ، بصرف النظر على نوعية الانتصار ، ولم تكن الثورة الروسية فقط من حملت راية الماركسية فقد حملتها ثورات وحركات كثيرة خلال القرن العشرين ، ولم تسقط الماركسية بسقوط الدول التى حملت رايتها ، وإنما سقط تفسيرها السلطوى واللينينى فحسب ، أما ما رسخه الجهد الأسطورى للماركسية و النضال الملحمى للماركسيين سواء فى ميدان العلوم الاجتماعية والحركات الثورية ، فما زال قويا ومؤثرا و مواليا نجاحه. ومازال الحلم اللاسلطوى الشيوعى قويا برغم ما يواجهه من صعوبات . والشيوعية اللاسلطوية  وأن كانت توارت بفعل الإصلاحية و اللينينية و الفاشية ، فقد بعثت من موتها من جديد ، لتواجه واقعا ينتظرها بالفعل ، و ما عليها إلا أن تتعلم من التاريخ كيف يتغير لتغيره ، وما هو دورها بالفعل لإحداث هذا التغيير .
أصبح اللاسلطويون لديهم الآن إمكانية مذهلة لكسر احتكار الرأسمالية لوسائل إنتاج ونشر الوعى ، و ذلك عبر ثورة الاتصالات الحديثة و الإنترنت ، و التى تزداد إمكانيتها المذهلة باطراد سريع ، وتنتشر بأسرع مما انتشرت أى وسائل أخرى من وسائل الاتصال والمعرفة ، والتى سيكون لها أبلغ الأثر على توحيد  اللاسلطويون الشيوعيين عبر العالم وانتشار أفكارهم لو أجادوا استخدامها بعد سنوات قليلة عندما تصبح الوسيلة الأساسية لنشر المعرفة والمعلومات على نحو رخيص و ديمقراطى وسهل . و لو ربطوا بين أفكارهم وقضايا الواقع الساخنة ، وطرحوا رؤيتهم كحل جذرى لتلك القضايا على نحو لا يعرف المساومة .ففى كل قضية من البطالة إلى البيئة ، لا يجوز إلا طرح البرنامج اللاسلطوى كحل وحيد لكل القضايا ، وفى نفس الوقت فضح كل الحلول الإصلاحية والسلطوية ، وكشف الأوهام البرلمانية ، وفى كل موقف علينا أن نوضح أن الحل بيد الجماهير المنظمة وصاحبة المصلحة ، لا بيد أى حكومة أو منظمة ما ، و لا بيد أى سلطة أو حزب فلسنا بحاجة لزعماء ملهمين كما لسنا بحاجة للسادة والألهة ، فعلينا أن نثق بمبادرة الناس وأن نشجعها ، فلم يعلم أحد الجماهير فى روسيا أن يشكلوا السوفيتات كشكل لسلطتهم الجماعية قبل أن تتبقرط بواسطة البلاشفة ، الذين حولوها كشكل لممارسة سلطتهم الديكتاتورية .ولم يعلم أحد العمال الإيطاليين أن يحتلوا المصانع فى 1920 ، ولم يعلم أحد عمال باريس أن يصنعوا الكوميونة فى 1871 بقدر ما تعلم ماركس نفسه من تجربة الكوميونة معالم الثورة القادمة ، فالثورة هى علاقة جدلية بين حركة الجماهير العفوية ، والأفكار الثورية ، و دور اللاسلطويون هو التعبير عن هذه الأفكار ونشرها بين الجماهير وتقدم صفوفها فى كل عمل احتجاجى أو ثورى.