مفارقة الأناركية
هربرت ريد
ترجمة: حسين الحاج
مراجعة: ملكة بدر
افتتاحية الموقع:
“في هذا المقال الشيق، يقدم هربرت ريد مفهوم “العقد الوظيفي” في مقابل “العقد
الإجتماعي”. العقد الوظيفي يميز المجتمع الأناركي حيث ينظم فيه الأفراد شئونهم ويتبعون
القوانين طبقًا لأهداف عملية تقصد طوعًا من قبل المشاركين فيه. بينما على الجانب الآخر
يصبح العقد الإجتماعي أساسًا للديموقراطية الدولانية حيث يصبح الجميع ملزمًا بصورة
تلقائية منذ ميلادهم بإتباع سلطة النظام المهيمن. وأصبح إثبات العقد الاجتماعي ممكنًا
بعد استبدال القانون الطبيعي “المعايير العقلانية” بالقانون الوضعي “أوامر الدولة”
التي نشأت مما يسمى الروح القومية والتي منها تتجسد الدولة.”
***
إنه كان من الرائج، خصوصًا بين الماركسيين الأرثوذكسيين، أن يحملوا ازدراءً
لأي نظرية سياسية لا تثبت صلاحيتها عند التطبيق. وأدى هذا التشديد على العمل في كثير
من الأحيان على الخلط بين الوسائل والغايات. وغالبًا ما تطغى الوسائل على الغايات وتصبح
بديلاً لها. على سبيل المثال، لقد وضعت ديكتاتورية البروليتاريا كوسيلة نحو مجتمع بلا
طبقات ثم أصبحت مستقرًا لسيطرة طبقة جديدة في روسيا.
الأناركية لا تخلط بين الوسائل والغايات، ولا بين النظرية والتطبيق، فهي نظرية
تعتمد على المنطق وحده، وإذا كان تصور المجتمع الذي ننشده يبدو مثاليًا وخياليًا، فليس
يهم، لأن ما تأسس بالمنطق الصحيح لا يمكن أن يخضع للنفعية. قد يكون نشاطنا العملي قائمًا
على التقرب التدريجي نحو المثالي، أو قد يكون قائمًا على التحقق الثوري المفاجئ لهذا
المثالي، ولكن يجب ألا يكون قائمًا أبدًا على الحلول الوسط. كثيرًا ما يُتهم برودون
بأنه أناركي على المستوى النظري، لكنه كان إصلاحيًا على المستوى العملي، والحقيقة أنه
كان أناركيًا في كل وقت رافضًا أن يورط نفسه في مخاطر الديكتاتورية. فهو لم يخض لعبة
السياسة لأنه كان يعلم أن الإقتصاد هو الحقيقة الأساسية. وهكذا فمن المتخيل الآن أن
التغيير في سيطرة الإئتمان المالي أو إقامة نظام جديد في حيازة الأراضي قد يقربنا نحو
الأناركية أكثر من ثورة سياسية تحول سلطة الدولة إلى أيدي مجموعة جديدة من المجرمين
الطموحين.
الأناركية تعني حرفيًا مجتمع بدون حاكم، لكن هذا لا يعني أنه بدون قانون وبالتالي
بدون نظام. الأناركي يقبل العقد الإجتماعي، لكنه يفسر هذا العقد بطريقة معينة يعتقد
أنها أكثر الطرق عقلانية.
العقد الإجتماعي، كما عرضه روسو، يعني أن كل فرد في المجتمع يتخلى عن حريته
من أجل الخير العام، مع افتراض أن بهذه الطريقة فقط يستطيع الفرد أن يضمن حريته. الحرية
يضمنها القانون، والقانون، بإستخدام عبارة روسو، هو التعبير عن الإرادة العامة.
حتى الآن، نحن متفقين، ليس فقط مع روسو، وإنما مع جميع الأعراف الديموقراطية
المبنية على الأساس النظري الذي وضعه روسو. ما يحيد فيه الأناركيين عن روسو، وعن ذلك
الجانب من العرف الديموقراطي الذي وجد تعبيرًا له في الإشتراكية البرلمانية، هو تفسيره
للطريقة التي يجب أن تشكل الإرادة العامة وتفرضها.
روسو نفسه لم يكن متسقًا في هذه المسألة، فهو كان مقتنعًا أنه يجب أن يوجد شكل
من أشكال الدولة تعبر عن الإرادة العامة، وأن السلطة التي تحوزها الدولة بالموافقة
العامة يجب أن تكون مطلقة. وكان بنفس الدرجة مقتنعًا أن الفرد يجب أن يحتفظ بحريته،
وأن بناءً على تمتع الفرد بحريته تقوم كل حضارة وتطور. أدرك روسو أن الصراع الدائم
بين الدولة والفرد حقيقة تاريخية، ومن أجل حل هذه المعضلة لجأ إلى نظريته عن التعليم.
إذا تربى كل فرد على تقدير جمال وتناسق القانون المتأصل في الطبيعة، فإنه سيعجز عن
إقامة الطغيان مثلما يعجز عن احتماله. ويصبح المجتمع الذي يعيش فيه الفرد تلقائيًا
مجتمعًا طبيعيًا، مجتمع القبول الحر الذي لا يكون فيه القانون والحرية إلا وجهان للحقيقة
واحدة. لكن هذا النظام التعليمي يتطلب سلطة مسبقة الوجود كي تقيمه، وهذه السلطة يجب
أن تكون مطلقة.
نظام الحكم الذي يقترحه روسو في كتاب العقد الإجتماعي أرستقراطي منتخب أكثر
منه ديموقراطي حقيقي، يتخيل فيه إقامة دولة صغيرة للدرجة التي تتيح لكل فرد فيها أن
يراقب وينتقد الحكومة كي يتحكم بهذه الأرستقراطية. ومن المحتمل أنه كان يفكر في نموذجًا
مشابهًا لدولة المدينة اليونانية، ومن الموكد أنه لم يبصر المجمعات الواسعة المكونة
من ملايين الأفراد التي تشكل الدولة الحديثة، ونحن واثقون أنه سيكون أول من يعلن أن
نظامه في مراقبة السلطة لن يعمل في ظل هذه الظروف.
لكن نظريته في الدولة، التي كان لها أثرًا عميقًا على تطور الإشتراكية الحديثة،
أخذت كي تطبق على الحشود الواسعة، ثم أصبحت عذرًا لأقصى أشكال الإستبدادية. اعترف بينامين
كونستانت بهذا الخطر منذ 1815، الذي وصف كتاب العقد الإجتماعي بأنه أفظع أنواع دعم
الإستبداد.
إذا كان ما يدعوه روسو بالشكل الأرستقراطي للحكم مطابق بشكل ما للديموقراطية
الحديثة، فإن ما يدعوه بالديموقراطية أقل مطابقة بالنظرية الأناركية الحديثة، ومن الشيق
النظر في أسباب رفضه للديموقراطية. فإنه يرفضها لسببين، أولاً: لأنه يعتبر من المستحيل
تنفيذها. فلا يمكن أن يجتمع الناس للحكم بصورة مستمرة، يجب أن تفوض السلطة على سبيل
الإقتناع المجرد، لكن بمجرد أن تفوض السلطة، فليس هناك أي ديموقراطية بعد ذلك.
والسبب الثاني مثال نموذجي على تناقضه. فكما يقول، إذا كان هناك شعبًا من الآلهة،
فإنهم قادرين على أن يحكموا أنفسهم بصورة ديموقراطية، لكن مثل هذه الحكومة المثالية
لا تناسب الإنسان.
لكن إذا كانت الديموقراطية أفضل نظم الحكم، فليس لمن أعلن اعتقاده في كمال الإنسان
أن يتقيد بآلهة. ما هو جيد بما يكفي للآلهة يكون الأفضل للإنسانية كنموذج. وبالنسبة
للمثالي، إذا كان المثالي موجودًا فعلينا أن نعترف به ونسعى بأي حال للتقرب من تحقيقه.
أما السؤال الجوهري في هذه السفسطة فقد تجاهله روسو، وهو عدم واقعية مفهوم الإرادة
العامة، ربما تكون هناك قضية واحدة يظهر فيها الناس دائمًا عن إجماعهم أو إرادتهم العامة:
الدفاع عن حريتهم المادية، وإلا ينقسمون تبعًا لطبائعهم، وعلى الرغم من عددها المحدود،
فهي متنوعة بما فيه الكفاية وتعارض بعضها حتى أنها ستؤدي إلى ظهور جماعات متنافرة في
أي مساحة جغرافية معينة.
بحسب هذا الإعتبار، يقول روسو والكثير من الفلاسفة الآخرون أنه من المستحيل
تحقيق الديموقراطية. إنهم مجبرون على هذا الإستنتاج لأنه يلتزمون بعناد بالحدود الإعتباطية
للدولة الحديثة. حدود تأسست على أنهار وبحار وجبال ومعاهدات عسكرية وليس بالمنطق.
فرضًا أننا تجاهلنا هذه الحدود أو أننا ألغيناها: الحقيقة أن الجنس البشري،
قبل أي شئ، ذو رغبات واحتياجات بدائية معينة. وسيشارك بنفسه تبعًا لحاجته وتعاطفه في
مجموعات المساعدة المتبادلة وسينظم اقتصادًا طوعيًا يضمن تلبية حاجاته. هذا هو مبدأ
المساعدة المتبادلة، الذي شرحه وأثبته كروبوتكين بكثير من الأدلة التاريخية والعلمية.
إنه المبدأ الذي يجعله الأناركي أساسًا للنظام الإجتماعي، وبناءً عليه يعتقد أنه يستطيع
بناء النموذج الديموقراطي للمجتمع الذي شعر روسو أنه مقصور على الآلهة.
ليس من الضروري إعادة التذكير بالدليل التجريبي هذا الإعتقاد، يمكن الحصول على
كتاب كروبتكين بنصف شلن من سلسلة “بينجوين”، وهو عمل يقر بعلميته جميع علماء الإجتماع
من كل المدارس. الصعوبة ليست في إثبات مبدأ له ما يدعمه من الدليل النفسي والتجريبي.
ولكن في تطبيق هذا المبدأ على الوضع الحالي للمجتمع.
هذا نقوم به مبدئيًا عن طريق أخذ المنظمات التطوعية الموجودة بالفعل والبحث
في مدى إمكانية تحويلها لوحدات في المجتمع الديموقراطي. هذه المنظمات هي النقابات العمالية
والإتحادات المهنية والجمعيات، كل هذه الجماعات التي تتمحور حول وظيفة الإنسان، ثم
نأخذ بعين الإعتبار الأدوار التي تقوم بها الدولة، وأيًا منها ضروري لرفاهيتنا، ونسأل
أنفسنا إلى أي مدى نستطيع توكيل هذه الأدوار إلى هذه المنظمات الطوعية. سنستنتج أنه
لا توجد أدوار رئيسية لا يمكن نقلها. صحيح أن مهام مثل القيام بالحرب وفرض رسوم الإيجار
لا تعبر عن دافع المساعدة المتبادلة، لكن لا حاجة أن نفكر في هذه الأدوار لأنها ستختفي
طبيعيًا إذا ألغيت السلطة المركزية للدولة.
أخطاء كل المفكرين السياسيين من أرسطو إلى روسو سببها استخدامهم المفهوم المجرد
للإنسان، تفترض أنظمتهم التوحد الأساسي لمخلوقهم المتخيل، وما يقترحونه حقًا أشكال
مختلفة من السلطة تفرض التوحد على الإنسان.
لكن الأناركي يعترف بتميز الفرد، ولا يسمح بالتنظيم إلا للفرد الذي يسعى للتعاطف
والمساعدة المتبادلة بين زملائه. إذن في الواقع، الأناركي يستبدل العقد الإجتماعي بالعقد
الوظيفي، وسلطة هذا العقد لا تمتد إلا أن تفي بعمل محدد.
وبينما يتصور المركزي أو السلطوي السياسي المجتمع جسدًا واحدًا ملزم بالتوحد،
يرى الأناركي المجتمع على أنه توازن أو انسجام بين الجماعات، وأن أغلبنا ينتمي إلى
جماعة أو أكثر. وتكمن الصعوبة في ترابطهم المتناغم.
لكن هل هذا صعبًا؟ صحيح أن الإتحادات العمالية تتشاجر مع بضعها أحيانًا، لكن
إذا حللنا هذه الشجارات سنجد أنه إما تحدث لأسباب خارجة عن دورها (اختلاف تصورهم عن
مكانهم في مجتمع رأسمالي غير فعّال مثلاً) أو بسبب منافسات شخصية التي تعكس الصراع
من أجل البقاء في العالم الرأسمالي. مثل هذه الإختلافات في الغاية لا علاقة لها بالمنظمات
التطوعية وهي في الواقع مستبعدة طبقًا لهذا المفهوم. والإتحادات العمالية عادةً تستطيع
أن تتفق فيما بينها بما يكفي حتى في المجتمع الرأسمالي، على الرغم من كل تحريضاتها
على التنافس والعدوانية.
إذا ذهبنا خارج زمننا إلى العصور الوسطي كمثال بعيد، سنجد أن التنظيم الوظيفي
للمجتمع أثبت أنه يمكن تحقيقه جدًا رغم عدم تحققه الكامل، لكن حال صعود الرأسمالية
من اكتماله تدريجيًا، أما في عصور أخرى وأشكال أخرى من المجتمعات، كما أوضح كروبوتكين،
فقد تأكدت إمكانية تحقق العلاقات المتداخلة بين الجماعات الوظيفية.
ربما يقال أنه إذا سلمنا أننا نستطيع نقل كل الأدوار الإقتصادية للدولة بهذه
الطريقة، فماذا عن الأدوار الأخرى مثل إدارة القانون الجنائي، العلاقات مع الدول الأجنبية
التي ليست على نفس مستوى التطور الإجتماعي، التعليم.. إلخ؟
يجيب الأناركي على هذا التساؤل بإجابتين، يفترض في المقام الأول أن أغلب هذه
الأنشطة غير الوظيفية عارضة على حالة غير وظيفية، الجريمة على سبيل المثال تمثل ردة
فعل على نظام الملكية الخاصة، والعلاقات الأجنبية اقتصادية في أساسها ودوافعها، لكنه
من المتفق أن هناك تساؤلات، مثلاً في بعض أوجه القانون العام، تعليم الأطفال، الفضائل
العامة، التي قد تكون خارج مجال المنظمات الوظيفية. يزعم الأناركي أن هذه أمور تتبع
الحس العام وتحل بالعودة إلى إرادة الخير الفطري للمجتمع. لكن المجتمع لهذا السبب لا
يحتاج بالضرورة إلى أي شئ هائل ومجرد مثل الدولة. في الحقيقة، سيكون فعالاً بنسبة عكسية
مع حجمه، الأسرة أكثر المجتمعات فعالية لأنها الأصغر. ثم تليها المقاطعة، الرابطة الإنسانية
المحلية في المساكن المتجاورة. هذه الجمعيات المحلية يمكن أن تنشئ محاكمها وهذه المحاكم
كافية للإدارة بالقانون العام المبني على الحس العام. كانت محاكم القصور الريفية في
العصور الوسطى تتعامل مع كل الجرائم والجنح المسجلة على مرتكبيها ضد مؤسسات الكنيسة
والدولة المصطنعة.
تعنى الأناركية بهذا المعنى لامركزية كلية للسلطة وتيسير شامل للحياة، ستختفي
الكيانات اللاإنسانية مثل المدينة الحديثة، لكن الأناركية لا تعني بالضرورة العودة
إلى الحرف اليدوية والنظافة العامة، فلا يوجد تناقض بين الأناركية والطاقة الكهربية،
أو بينها وبين النقل الجوي أو تقسيم العمل أو الكفاءة الصناعية، ما دامت الجماعات الوظيفية
ستعمل من أجل مصلحتها المشتركة، وليس من أجل فائدة الآخرين أو الخراب المشترك، ستصبح
الرغبة في التمتع بالعيش معيارًا للكفاءة.
وهناك اعتبار آخر ذو طابع أكثر موضوعية وإلحاحًا، يظهر ألفريد كوبان في كتابه
الرائع الذي نشر مؤخرًا “أزمة الحضارة” أن الكوارث التي وقعت في العالم الغربي نتجت
مباشرةً لإعتماد ألمانيا لنظرية السيادة الشعبية أو الوطنية بدلاً من نظرية القانون
الطبيعي التي طورتها نزعة الفكر العقلاني في القرن الثامن عشر المعروفة بالتنوير، يقول
كوبان أن الفكر الألماني “استبدل الحقوق الطبيعية بالحقوق التاريخية وإرادة الأمة أو
الشعب، من أجل تأسيس القانون والحكومة… كانت النتيجة النهائية لنظرية سيادة الأمة بهذه
الطريقة استبدال التاريخ بالأخلاق. وهذا الإتجاه كان موجودًا في كل الفكر المعاصر لكل
البلدان، إلا إنه قد وصل إلى ذروته في ألمانيا. إن النقطة المميزة للفكر الألماني الحديث
هو تحلل الأخلاق في الروح القومية، واستنتاجها العملي أن الدولة أصبحت مصدرًا لكل الأخلاق
وأن يجب على الفرد قبول قوانين واجراءات دولته باعتبارها الشرعية الأخلاقية مطلقة”.
لن أكرر الدلائل المفصلة التي عرضها المؤرخ الخبير كوبان في تدعيم مقولته، لأن
حقيقتها ظاهرة بصورة كافية. “أصبحت السيادة دينًا سياسيًا اليوم سواء إذا ادعت تبني
الديموقراطية أو القومية أو الإشتراكية أو مزيجًا من الثلاثة”. ويترتب على ذلك إننا
إذا أردنا تخليص أوروبا بشكل دائم من الخطر الذي تمثله ألمانيا على السلام، فعلينا
أولاً دحض جميع مفاهيم السيادة الألمانية. فطالما ظل هذا المفهوم كدين قومي، سنعود
باستمرار إلى أدوات سياسة القوة المسلحة والعدوان العشوائي.
وقد كانت ألمانيا العظمى، القلقة أصلا من الاتجاهات التي بدأت تتشكل حينها كرد
فعل فوري للثورة الفرنسية، هي التي حذرت شعبها من النزاعات التي تتشكل ضد نفس الوحش
الذي خلقوه.
يقول شيلر في كتاب رسائل عن التربية الجمالية للإنسان الصادر عام 1795: “وهكذا
انطفأت الحياة الفردية الواقعية، من أجل يستمر المجرد الكلي في حياته البائسة، وتبقى
الدولة غريبة عن مواطنيها إلى الأبد، لأنها لا تمس مشاعرهم في أي موضع. تجد السلطات
الحاكمة نفسها مضطرة لتصنيف، وبالتالي لتبسيط تعددية المواطنين، ولا تعرف الإنسانية
إلا من خلال وسطاء وفي شكل تمثيلي، وبهذا ينتهي بهم الأمر إلى فقدان الاعتبار للإنسانية
تمامًا، ومن خلال معالجة ذلك بخلق تفاهم سطحي مصطنع، لا تستطيع كامل طبقات المجتمع أن
تتلقى القوانين التي تعاملهم باحتقار. لقد تحطم المجتمع وتشظى في النهاية بسبب احتماله
عناء التقليل من طغيان الدولة، وأصبح هذا مصيره منذ أن نشأت معظم الدول الأوروبية،
تحللت في ما يمكن تسميته دولة الطبيعة الأخلاقية، حيث لم يعد للسلطة العامة إلا دور
واحد، تكره وتخدع الذين يؤمنون بضرورتها، وتحترم الذين يمكنهم الإستغناء عنها”.
يصرح شيلر بهذه الكلمات المتبصرة أن التضاد الذي تم تجاهله في تطور أوروبا السياسي
الحديث بين الحرية الطبيعية والتنظيم الآلي أدي إلى النتائج التي نراها حولنا الآن.
الأناركية هي الإحتجاج الأخير والأكثر إلحاحًا على هذا المصير، حيث تستدعي المبادئ
التي يمكن أن تضمن وحدها الإنسجام بين الإنسانية وتطور عبقريتها المبدعة.
[1] هربرت ريد (1893-1968)
كاتب وشاعر إنجليزي، أشهر كتبه المترجمة إلى العربية (إلى الجحيم بالثقافة).