مدونة تحررية تهتم بنشر الفكر الأناركي اللاسلطوي والكتابات التحررية باللغة العربية
إظهار الرسائل ذات التسميات المكتبة. إظهار كافة الرسائل
إظهار الرسائل ذات التسميات المكتبة. إظهار كافة الرسائل
الخميس، 29 سبتمبر 2011
الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011
الأحد، 7 أغسطس 2011
كتاب تربية عبد القادر الجنابي
عبدالقادر ناجي علوان الجنابي (العراق).
ولد عام 1944 في بغداد.قصد لندن أواخر يناير 1970 , ومكث فيها أكثر من سنتين, ثم ذهب إلى باريس حيث يقيم الآن, ويحمل الجنسية الفرنسية.
أسس عدة مجلات بالعربية والفرنسية والإنجليزية منها مجلات: الرغبة الإباحية, والنقطة, وفراديس.
دواوينه الشعرية: كيف أعاودك وهذا أثر فأسك 1973 ـ في هواء اللغة الطلق 1978 ـ مرح الغربة الشرقية 1988 , وديوان شعر بالإنجليزية.
مؤلفاته: معارك من أجل الرغبة الإباحية (مختارات من النصوص والبيانات) ـ ثوب الماء ـ شيء من هذا القبيل ـ تدفق ـ انفرادات الشعر العراقي الجديد, كما أن له ترجمات كثيرة من الإنجليزية إلى العربية.
يبدأ الجنابي كتابه وهو سيرة ذاتية/كتابة/حلم معًا جديرًا بأحد السورياليين العرب القلائل الحالمين المتمردين بتلك الكلمات " لأن الكتابة ليست مجرد تعبير عما خفي على الكاتب في أعماقه وإنما هي كذلك جولانه على سطح الأعماق لاكتشاف ما ترسب في ذاكرته فغدا جزءا منه، فالكاتب، بقدر ما يتشرد في متيه ذاتية حرة، يولد لديه، في حمى هذا التشرد، شعور بالاستيلاء على مجمل الماضي وبالابتعاد عن كل موضوعية.
كذلك، فما يعلق في ذاكرته من كلام الآخرين يتقمص أحيانا كثيرة معاني غير تلك التي قصد إليها أصحابه. ويؤول هذا – أن ذاكرة الكاتب ليست تراكمية انتفاعية ، يؤول، في هذه الصفحات، إلى حصر بعض الاقتباسات بقوسين ( ) لتذكير القارئ، فقط، بأنها ليست لي، وإن تكاد تكون من صلب ما أفكر به، دون ذكر "على حد قول"، أو "كما قال"، ذكر غالبا ما يرتد خيانة لغائية قائلها الباطنة.
(والآن، وقد أعطيتك، يا عزيزي القارئ، المفاتيح، هاك الأقفال... افتحها، فكل الأبواب تفضي إلى عين الرواق الذي هو البداية والنهاية ولا ينتهي إلا حيث يبدأ). "
الأحد، 5 يونيو 2011
كتاب الاناركية مجتمع بلا رؤساء- أحمد زكي 5 من 5
خاتمة الكتاب
الدولة والثورة
أحمد زكي
وهكذا تختلف الماركسية عن الاناركية في العديد من الاوجه، الا ان هناك بعض التماثل بين المدرستين في عدد من النقاط الفكرية والمنهجية. تشترك الماركسية مع الاناركية في اهداف طويلة المدى (المجتمع الاشتراكي بلا دولة)، وفي العداء لنفس الخصوم السياسيين (المحافظون واليمينيون واحيانا الليبراليون)، ونفس التحديات البنيوية (الرأسمالية والحكومات القائمة). بل طالما شارك العديد من الماركسيين في ثورات اناركية والعديد من الاناركيين في ثورات ماركسية.
ومع ذلك، يختلف الاناركيون مع الماركسيين في كثير من القضايا الهامة ومنها: الدولة، والبناء الطبقي للمجتمع، ومنهج الحتمية التاريخية.
النموذج الكلاسيكي والدامي فعلا للصدام بين الاناركية والماركسية حدث اثناء الحرب الاهلية الروسية (1918 – 1921) في اوكرانيا: قوات الانصار الماخنويين تعرضت للتدمير والقتل والاعتقال على ايدي الجيش الاحمر البلشفي في الوقت الذي كان يحارب فيه هذان الجيشان معا ضد القوات البيضاء وقوات الغزو الالماني النمساوي؛ وحدث ايضا اثناء الحرب الاهلية الاسبانية 1936: الماركسيون الثوريون من حزب العمال للتوحيد الماركسي (POUM)، والسينديكاليون الاناركيون في كونفدرالية العمل الوطنية (CNT)، واناركيو الفدرالية الاناركية الايبيرية (FAI) ثلاثتهم واجهوا القمع وتعرضوا لهجمات القوات المسلحة للحزب الشيوعي الاسباني والكتيبة الدولية الستالينية في الوقت الذي كان الجميع يحاربون ضد الحركة الفاشية بقيادة الجنرال فرانشيسكو فرانكو. هذا بعيدا عن التشهير بالعمالة للقيصر على غير اساس الذي وجهه ماركس وانجلز اكثر من مرة لباكونين في الاممية الاولى، وتصالحوا بعدها لبعض الوقت. الا انه على الجانب الايجابي، تواجدت تاريخيا حركات هجين طابقت فكريا ما بين المدرستين: مثل حركات الماركسيين التحرريين وانصار التسيير الذاتي.
الدولة:
بالنسبة للماركسيين، اي دولة هي بشكل اصيل ديكتاتورية طبقة على باقي الطبقات الاخرى. لذلك، في اطار النظرية الماركسية، فور ما يختفي التمايز بين الطبقات، سوف تختفي الدولة ايضا.
في اشهر مؤلفات لينين بعد قيام الثورة الروسية في فبراير 1917، الدولة والثورة ، يستند لينين بشدة على شروح لافكار ماركس وانجلز، مدافعا عن خطته للاستيلاء بجهاز حزبه السري على سلطة جهاز الدولة الامبراطورية الروسية المتهاوية تحت ضربات جيوش المحور في الحرب العالمية الاولى، وفراغ السلطة الناتج عن الثورة ضد القيصر وخلعه في ثورة فبراير 1917 الشعبية. في هذا الكتاب يستشهد لينين بفقرة كاملة من كتاب فردريك انجلز الاشهر "اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، قام هو نفسه بترجمتها عن الالمانية، عن مفهوم الدولة في النظرية الماركسية:
"لذلك، فالدولة بلا أي قصد اخر هي سلطة مفروضة على المجتمع من خارجه؛ بالضبط كما هي اقل من ان تكون "حقيقة الفكرة الاخلاقية‘، و’صورة وحقيقة العقل‘، بنفس القدر الذي يستمر هيجل في وصفها به. بالاحرى، هي نتاج مجتمع وصل الى مرحلة معينة من التطور؛ انها القبول بأن هذا المجتمع قد وقع في حبائل تناقض مع نفسه غير قابل للحل ، وان هذا المجتمع قد انشق في تناقضات لا يمكن تسويتها، ولا يمتلك حولا ولا طولا للتخلص منها. ولكن بسبب هذه التناقضات، تلك الطبقات بمصالحها الاقتصادية المتصارعة، قد لا تستهلك نفسها ولا مجتمعها في صراع لا طائل من وراءه، ويصبح من الضروري ان تمتلك سلطة، تبدو من الظاهر أنها قائمة فوق المجتمع، تقوم بتطبيب اثار هذا الصراع وتخفيف ويلاته والاحتفاظ به داخل حدود ’النظام العام‘؛ وهذه السلطة، التي تخرج من المجتمع ولكن تضع نفسها فوقه، وتغترب بنفسها اكثر فأكثر عنه، هي الدولة ".
وبهذاالاستشهاد يؤكد لينين حجته في مواجهة خصومه، فيقول: "وطبقا لماركس، الدولة هي اداة الحكم الطبقي، اداة لاضطهاد طبقة بواسطة طبقة اخرى؛ انها عملية خلق ’للنظام العام‘، الذي يعطي شرعية وديمومة لهذا الاضطهاد عن طريق التحكم في درجات سخونة واشتعال الصراع بين الطبقات. ومع ذلك، في رأي السياسيين البرجوازيين الصغار[هنا يقصد لينين ماركسيي الدولية الثانية في اوروبا وروسيا]، النظام العام يعني التصالح بين الطبقات، وليس عدم اضطهاد طبقة بواسطة طبقة اخرى؛ وأن تخفف درجة اشتعال الصراع يعني تصالح الطبقات وليس حرمان الطبقات التي تخضع للاضطهاد من وسائل واساليب كفاحية محددة للاطاحة بظالميهم ".
ومع ذلك، هناك بعض التطابق في الاراء بين الاناركيين والماركسيين. يؤمن الاناركيون ان اي دولة سوف تهيمن عليها لا محالة نخبة سياسية اقتصادية، لذلك تتحول الدولة فعليا فتصبح اداة للسيطرة الطبقية.
وعلى خلاف الاناركيين، يؤمن الماركسيون أن القمع الطبقي الناجح دائما ما يتطلب تقريبا طاقة فائقة للعنف هي الدولة، وان المجتمعات السابقة على الاشتراكية كانت تحكمها طبقات اقلية، لذلك في النظرية الماركسية اي دولة غير اشتراكية تمتلك نفس الخصائص التي ينسبها الاناركيون والاخرون لكل شكل من اشكال الدولة.
المرحلة الانتقالية
تقود نظرية الدولة مباشرة الى السؤال العملي عما يكون عليه شكل المرحلة الانتقالية الى مجتمع حر بلا دولة في رأي كلا من الاناركيين والماركسيين بوصف هذا المجتمع هو الهدف النهائي لكلا منهما.
يؤمن الماركسيون ان الانتقال الناجح للمجتمع الشيوعي المتحرر من الدولة يتطلب قمع الرأسماليين وإلا فإنهم سوف يعيدون تأسيس سيطرتهم الخاصة بعد ان يستجمعوا قواهم مرة اخرى، ولذلك يرى الماركسيون ضرورة لوجود دولة في شكل ما يديرها العمال (ديكتاتورية البروليتاريا) لتأمين المرحلة الانتقالية. يعارض الاناركيون هذا المنطق بقولهم ان "دولة العمال" التي يدافع عنها الماركسيون هي استحالة منطقية، حيث انه فور ان تبدأ اي جماعة في الحكم بواسطة جهاز الدولة، فانهم يتوقفون عن كونهم عمال (هذا اذا كانوا كذلك من الاصل) ويتحولون الى طغاة. ايضا انتقد معظم الاناركيين فكرة ديكتاتورية البروليتاريا على كل من المستوى النظرى والتاريخي. بشكل اساسي، ما يقال لدحضها هو انها ليست الطبقة التي تستولى على السلطة ولكنها الاقلية، اي الحزب بالمعنى اللينيني، وبهذا الشكل تصبح ديكتاتورية ضد البروليتاريا. انهم يشيرون الى التدابير التي اتخذها لينين وتروتسكي وستالين اثناء الثورة الروسية منذ البدايات الاولى عام 1917 كدليل على ذلك. يدعم الاناركيون حججهم بالاشارة الى طبيعة الاتحاد السوفيتي الغير ديموقراطية وطبيعة الدول الاخرى التي تميز نفسها بأنها "ماركسية"، بينما يدعم الماركسيون حججهم بالاشارة الى هزيمة الثورات التي قادها الاناركيون مثل هزيمتهم ابان الحرب الاهلية الاسبانية.
لذلك كلا من الاناركيين والماركسيين يرغبون في "سحق" الدول القائمة. بعد "تحطيم" الدولة، يسعى الماركسيون الى استبدالها فورا بدولة عمال، اي بديكتاتورية البروليتاريا، او تنظيم العمال كطبقة حاكمة. من هذه النقطة، كما عبر عنها فردريك انجلز، سوف تبدأ دولة العمال في الافول. وفي الاخير تتوقف عن الوجود عندما ينهزم التناقض الطبقي تماما. من الناحية الاخرى، يشعر الاناركيون ان اي اعادة خلق لاي نوع من الدولة سوف يضع السلطة في ايدي اقلية ضئيلة، ولسوف يستمر بعدها قمع الدولة. يرد عديد من الماركسيين على ذلك بقولهم ان القمع المنظم والمركزي ضد الطبقة الرأسمالية سوف يكون ضروريا بشكل مطلق، وان البروليتاريا تستطيع تحقيق ذلك على اكمل وجه عن طريق استخدام الدولة. يندمج الموقف الماركسي مع موقف الاناركية في احد نهايات الطيف، حيث ان الاناركيين لا يتفقون بين انفسهم حول اذا ما كان نظاما لمجالس العمال الديموقراطية يحتكر العنف هو نفسه شكل من اشكال الدولة ام لا، بينما يختلف الماركسيون بين بعضهم البعض اختلافا واسعا على الشكل الذي تتخذه ديكتاتورية البروليتاريا.
الاحزاب السياسية
مسألة الاستيلاء على السلطة تستدعي معها مسألة الاحزاب السياسية، وهي ايضا القضية التي تفرق بين الاناركيين والماركسيين. معظم الماركسيين يرون في الاحزاب السياسية ادوات مفيدة بل انها حتى بالنسبة لهم اداة ضرورية للاستيلاء على السلطة، حيث انهم يرون ان الجهود التي يتم تنسيقها بشكل مركزي هي امر ضروري لهزيمة الرأسمالية ودولتها هزيمة تامة؛ وإن الاحزاب ضرورية ايضا من اجل تأسيس هيئة قادرة على الاحتفاظ بالسلطة.
باختصار يمثل الحزب عند الماركسيين فكرة الطليعة السياسية التي استخدمت بشكل واسع ورحب جدا في القرن التاسع عشر لوصف أي فرد، يعتبر من وجه نظر ما، ساعيا لاكتشاف طريق يؤدي إلى مجتمع مستقبلي حر. صك هنري دو سان سيمون مصطلح ’الطليعة‘ في سلسلة من مؤلفاته كتبها في أخريات أيام حياته. وحذا حذوه هذا الذي كان في احد الأوقات سكرتيره واحد حوارييه (وفيما بعد، أنكى منافسيه، أوجست كونت)؛ سان سيمون كان يكتب في ظل الثورة الفرنسية، وكان يسأل بالأساس ما هو الخطأ الذي وقع: انتقال مجتمع العصور الوسطى الإقطاعي الكاثوليكي إلى مجتمع ديموقراطي صناعي عصري لماذا يؤدي هذا الانتقال إلى إنتاج كل هذا العنف والانخلاع الاجتماعي الهائل؟ رأى سان سيمون في الفنانين طليعة مجتمعه الجديد بينما رأى اوجست كونت في العلماء طليعة مجتمعه الفاضل.
الا انه ماركس، هو الذي بدأ في إحداث تغيير له وزنه لمعنى الطليعة عن طريق تقديم فكرته القائلة بأن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة الثورية حقا لأنها ليس لديها ما تخسره عند الغاء الطبقات – هو لم يستخدم حرفيا مصطلح "الطليعة" في كتاباته. والنتيجة، "نعرفها جميعا! فكرة حزب الطليعة الذي ينذر نفسه لكلا من تنظيم هذه الطبقة الأكثر اضطهادا المختارة كوسيط لحركة التاريخ ومن اجل منحها مشروعا فكريا، ولكنه أيضا، حزب الطليعة الذي ينذر نفسه لإشعال شرارة الثورة من خلال استعداده لاستخدام العنف، هذه الفكرة أوضحها لأول مرة لينين في 1902 في كتابه ’ما العمل؟‘ وتردد صداها إلى ما لا نهاية منذ ذلك الحين ".
ففي وقت كتابته "ما العمل؟"، كان لينين شابا روسيا مهاجرا عاد من منفاه في سيبريا ويعيش في جنيف بسويسرا. كتاباته في الصحيفة الروسية الاشتراكية الديموقراطية "الايسكرا" (الشعلة)، وضعته في مركز الجدل المحتدم في ذلك الوقت بين الدوائر الماركسية الاوروبية حول افكار ادوارد برنشتاين "المراجعة او النقدية" للماركسية. كانت المشكلة اكثر الحاحا بالنسبة للينين الشاب حيث ان الماركسيين الروس المنفيين، المعروفين باسم الاقتصاديين، كانوا يدافعون عن افكار برنشتاين بحجة ان الحزب الديموقراطي الاجتماعي الروسي يجب ان يركز على العمل الشرعي الذي يستهدف التحسن الاقتصادي للطبقة العاملة الروسية. رد لينين على ذلك كان جدلا كلاميا ساخنا وضع فيه الخطوط العريضة للحزب الثوري الماركسي، كتاب "ما العمل".
يشرح لينين هذا المشهد بقوله: "ليس سرا ان هناك تياران قد تكونا في الاممية الاشتراكية الديموقراطية اليوم. يشتعل لهيب الصراع بين هذين التيارين الان، وتتحول اوراق "قرارات الهدنة" الى رماد ودخان. جوهر الاتجاه الجديد، والذي يتبنى اتجاها "نقديا" ضد "التحجر العقائدي البائد" للماركسية، يعرضه برنشتاين بما يكفي من وضوح، ويعلنه ميليران" .
تيار "المراجعة – نقد الماركسية" الذي تزعمه برنشتاين احاط نفسه ببطارية كاملة من "الحجج المنطقية"، ورفض فكرة الافقار المتنامي واشتداد التناقضات داخل المجتمع الرأسمالي، ولم ير تناقضا من حيث المبدأ بين الاشتراكية والليبرالية. ومن هنا رفض هذا التيار المراجع فكرة الصراع الطبقي وبالتالي ديكتاتورية البروليتاريا على ارضية انه لا يمكن تطبيقها على مجتمع ديموقراطي بشكل خاص لأن الحكم فيه يتم طبقا لارادة الاغلبية. وهي النتيجة التي رأى لينين فيها "ليس اكثر ولا اقل من تنويعة جديدة من الانتهازية"... وان ما تتدعيه من "حرية الانتقاد" هو الحرية في تحويل الاشتراكية الديموقراطية الى حزب ديموقراطي للاصلاحات الاجتماعية.
ومن هنا جاءت اول اسس اللينينية: "دون نظرية ثورية لا يمكن ان تكون هناك حركة ثورية... دور مناضلي الطليعة لا يمكن الوفاء به الا بواسطة حزب ترشده اكثر النظريات تقدما" ...
حجر الاساس الثاني في اللينينية كانت مقدماته تحليل لينين للاضرابات العمالية في سان بطرسبورج التي حدثت بشكل منهجي خلال تسعينات القرن التاسع عشر في سان بطرسبرج. في نظر لينين، كانت هذه الاضرابات في حد ذاتها، ببساطة كفاح نقابي، تمثل علامة على استيقاظ التناقضات بين العمال واصحاب العمل، ولكن لم يصبح العمال بعد، ولا يمكنهم ان يكونوا على وعي بالتناقضات التي لا يمكن حلها بين مصالحهم وبين كامل النظام السياسي والاجتماعي الحديث. بهذا المعنى، حكم لينين على اضرابات التسعينات، رغم التقدم الهائل الذي تمثله مقارنة "بالتمردات" المبكرة، بأنها "تظل حركة عفوية صرف".
ترى اللينينية انه لا يمكن ان ينشأ وعي اشتراكي ديموقراطي وسط العمال من تلقاء انفسهم، بل يجب ان يجلب اليهم هذا الوعي من خارجهم: "تاريخ كل البلدان يظهر ان الطبقة العاملة، من خلال جهودها هي الحصرية، لا تستطيع سوى تطوير وعيا نقابيا فقط، اي، الاقتناع بضرورة الاتحاد والتجمع في نقابات، ومحاربة اصحاب العمل والسعي الحثيث لاجبار الحكومات على تمرير القوانين الضرورية لتشريعات العمل، الخ.
"...مذهب الاشتراكية الديموقراطية النظري نهض بشكل مستقل تماما عن النمو العفوي لحركة الطبقة العاملة، نهض كنتيجة طبيعية وحتمية لتطور الفكر وسط النخبة المثقفة الاشتراكية الثورية... ومن هنا، لدينا كل من النهوض العفوي لجماهير العمال، النهوض لحياة واعية وكفاح واع، ولدينا شباب ثوري، مسلح بالنظرية الاشتراكية الديموقراطية، شغوف لبناء اتصال بالعمال... "
وبالتالي يصل لينين الى اكتشافه المؤسس وهو الحزب الثوري: "الكفاح السياسي للاشتراكية الديموقراطية هو كفاح اكثر تكثيفا واكثر تركيبا بكثير من الكفاح الاقتصادي للعمال ضد اصحاب العمل والحكومة. وبالمثل (فعليا لهذا السبب)، تنظيم حزب اشتراكي ديموقراطي ثوري يجب ان يكون حتميا نوع مختلف عن شكل تنظيم العمال من اجل كفاحهم الاقتصادي هذا...
"انا اشدد على:
1) لا يمكن لحركة ثورية ان تتحمل الصعاب وتبقى دون وجود منظمة ثابتة من قادة يضمنون الاستمرار؛
2) كلما جذب الكفاح العفوي جماهير اعرض، لتشكل اساس الحركة ولتشارك فيها، كلما كانت الحاجة اكثر الحاحا لمثل هذه المنظمة، وكلما كانت الحاجة اعظم لمنظمة متماسكة...؛
3) وأن مثل هذه المنظمة يجب ان تتشكل من اناس منخرطين بشكل محترف في النشاط الثوري؛
4) وانه في دولة استبدادية الحكم، كلما حصرنا عضوية مثل هذه المنظمة اكثر في الناس المنخرطين باحتراف في العمل الثوري والمدربين بشكل محترف على اساليب مكافحة البوليس السياسي، كلما كان اصعب اجتثاث هذه المنظمة وتدميرها؛
5) وبالتالي كان عدد افراد الطبقة العاملة والطبقات الاخرى من المجتمع، الذين سوف يستطيعون الانضمام الى الحركة والقيام بالعمل الايجابي فيها، اعظم... "
يرى الاناركيون في منظماتهم النقيض من الجماعات الماركسية المغلقة. ففي رأيهم اهتمام الأحزاب "المركزية الديموقراطية" الاكبر ينصب على بلورة تحليل نظرى صحيح وتام، وبناء عليه تطلب هذه المنظمات من اعضائها توحدا ايديولوجيا صارما، وتميل إلى استكمال رؤيتها التفصيلية للمستقبل، بممارسات سلطوية متطرفة داخل التنظيم فى الوقت الحاضر. بينما المنظمات التى يتحدث عنها معظم الاناركيين تتخذ شكل المجالس او الفدراليات او الكونفدراليات تمارس الديموقراطية المباشرة وتسعى لخلق اليات تحقيق الاجماع والتوافق وتبحث عن التعددية بشكل مفتوح. الجدل داخل منظماتهم هذه يركز دائما حول جولات بعينها من الحركة؛ فمن المسلم به عندهم انه لن يستطيع أى احد أبدا ان يحول أحدا أخر إلى وجهة نظره بالكامل. قد يكون الشعار، "لو أنت على استعداد للتصرف كأناركى في هذا الاتجاه فى هذه اللحظة، فرؤيتك طويلة المدى هى شأنك الخاص تماما". يقول جريبر: "وهذا فقط يبدو معقولا: فلا احد منا يعرف إلى أى مدى سوف تأخذنا هذه المبادئ فعلا، ولا أى تركيب مجتمعى مبنى على أساس هذه الافكار سوف تبدو صورته النهائية الفعلية". اما بالنسبة لقضية الطليعة او النخبة المثقفة والجماهير، فهم يطرحونها على نحو مختلف نوعيا، "أن التحالفات الثورية تميل دائما للارتكان إلى نوع من الأحلاف بين عناصر المجتمع ’الأقل اغترابا‘ والعناصر ’الأكثر تعرضا للاضطهاد‘. ونستطيع القول، أن الثورات الفعلية مالت للحدوث عندما تداخلت هاتان الشريحتان الاجتماعيتان مع بعضهما البعض بشكل واسع ". وهم يصرون على عدم اعطاء اي وضع خاص متميز للبروليتاريا من خلال سؤال يطرحونه وهو، "لماذا تقريبا يبدو دائما أن الفلاحين والحرفيين، وحتى لدرجة اكبر، العمال الصناعيين الذين كانوا فلاحين وحرفيين منذ وقت قريب، هم الذين أطاحوا فعلا بالأنظمة الرأسمالية؛ وليس أولئك الذين يتعيشون منذ أجيال على العمل المأجور ".
ومع ذلك، يختلف الماركسيون بين بعضهم البعض حول ما اذا كان للحزب الثوري ان يشارك في الانتخابات البرجوازية ام لا، واي دور يجب ان يلعبه الحزب بعد الثورة، وكيف يجب تنظيم هذا الحزب. من ناحية اخرى، يرفض الاناركيون بشكل عام المشاركة في الحكومات، ولهذا هم لا يشكلون احزابا سياسية، حيث انهم يرون اي هيكل ذو بناء هرمي يمتلك ميلا اصيلا نحو التحول الى كيان سلطوي وظالم. الا ان الكثير منهم ينتظمون سياسيا على اساس الديموقراطية المباشرة والفدرالية من اجل المشاركة بشكل اكثر فعالية في الكفاحات الجماهيرية وقيادة الناس نحو الثورة الاشتراكية (عن طريق ضرب النموذج ونشر الافكار).
العنف والثورة
هناك سؤال اخر يتعلق بقوة بنظرية الدولة وهو اذا ما كان استخدام العنف الواسع المنهجي امرا مقبولا ام لا؟ وكيف يتم تطبيق هذا العنف من اجل تحقيق الثورة الناجحة. منطق الاناركيين هو ان كل الدول هي دول "غير شرعية" لأن كل الدول تركن الى استخدام العنف المنهجي، في الوقت الذي ترى فيه الاناركية ان استخدام العنف على نطاق ضيق او حتى استخدام عمليات الاغتيال الذي يستهدف النخب الاجرامية قد يكون مفيدا او حتى ضروريا في بعض الظروف (الدعاية بواسطة الفعل)، اما استخدام العنف الجماعي ضد الناس العاديين – مثل ذلك الذي مارسه ستالين في عمليات التطهير الكبرى، او بواسطة ماو في الثورة الثقافية – هو امر غير مقبول ابدا وغير مبرر. معظم الماركسيين يقدمون منطقا يطرح ان العنف الواسع المدى هو امر مشروع وهكذا "الحرب العادلة" هي امر ممكن، على الاقل في ظروف محددة كالدفاع الجماعي عن النفس، مثلا ضد محاولة انقلاب او ضد غزو امبريالي. وبعض الماركسيين خصوصا الستالينيون يزيدون في منطق استخدام العنف الواسع المدى بقولهم عموما "ان الغاية تبرر الوسيلة"، وهكذا نظريا اي درجة من العنف واهراق الدماء قد تكون مبررة من اجل تحقيق الشيوعية.
من الناحية الاخرى، بعض الاناركيين يرتقون بفكرة الدفاع الجماعي بدلا من فكرة العنف واسع المدى ضد الدولة. فبعضهم يروج للاحتجاجات والمسيرات والاضرابات العامة السلمية، ويرضون عن العنف فقط كدفاع عن النفس في مواجهة التحركات العدوانية التي تقوم بها الدولة لمنع ثورات الاناركيين السلمية. الا ان العديد من الاناركيين الاشتراكيين مثل جماعات الفردويين وجماعات العون المتبادل يفضلون عادة المقاربات الاصلاحية بديلا عن العنف الصريح ويدافعون فقط عن قدر محدود من العنف في ظل شروط مشددة للغاية. الاناركية الاجتماعية المعاصرة غالبا ما تروج لعدم العنف والكفاح السلمي واستخدام العنف فقط في حالات الدفاع عن النفس، ولكنها لا تؤمن بالمقاربات الاصلاحية.
الجدل حول قضية الطبقة
كلا من الماركسيين والاناركيين تستند تحاليلهم للطبقات الاجتماعية على اساس فكرة ان المجتمع ينقسم الى عديد من "الطبقات" المختلفة، لكل واحدة منهن مصالح مختلفة طبقا لشروط وجودها المادي. ولكن الاناركيين والماركسيين يختلفون في اين يمكن لكل منهما رسم الخطوط الفاصلة بين تلك المجموعات الطبقية.
بالنسبة للماركسيين، الطبقتان الاكثر اهمية بالنسبة للتغيير الاجتماعي هما "البرجوازية" (ملاك وسائل الانتاج) و"البروليتاريا" (العمال بالاجر). اعتقد ماركس ان الظروف التاريخية الفريدة التي انشأت طبقة العمال الصناعيين سوف تدفعهم الى تنظيم انفسهم معا والاستيلاء على الدولة ووسائل الانتاج من بين ايدي طبقة البزنس، وتقوم بتحويل الاثنين (الدولة وعلاقات الملكية) الى الشكل التعاوني، من اجل خلق مجتمع لا طبقي يديره العمال من اجل العمال. ماركس يرفض بوضوح لا لبس فيه الفلاحين، و"البرجوازيين الصغار" اصحاب الممتلكات الصغيرة، و"البروليتاريا الرثة" – من العاطلين والطبقات السفلى" – بوصفهم غير قادرين على خلق ثورة.
التحليل الاناركي للطبقة سابق تاريخيا على الماركسية ويتناقض معها. منطق الاناركيين هو انه ليست كامل الطبقة الحاكمة هي التي تهيمن فعلا على الدولة، ولكنها اقلية تشكل جزء من الطبقة الحاكمة (وهكذا تدافع عن مصالحها هي)، ولكن من خلال منظور الاهتمامات الخاصة لهذه الاقلية، وخصوصا هم الاحتفاظ بكرسي السلطة. اقلية من الثوار تستولي على سلطة الدولة وتفرض ارادتها على الشعب سوف تصبح سلطوية بنفس القدر الذي تكون عليه الاقلية الرأسمالية الحاكمة، ولسوف تؤسس نفسها فعليا بوصفها طبقة حاكمة. مثل هذا الوضع تنبأ به باكونين منذ زمن طويل سابق على الثورة الروسية وسقوط الاتحاد السوفيتي .
ايضا وبشكل تقليدي دافع الاناركيون عن ان الثورة الناجحة تحتاج الى دعم الفلاحين وان الثورة تستطيع الحصول على هذا الدعم عن طريق اعادة توزيع الارض على المعدمين منهم وصغار الملاك الفقراء. وبهذا المعنى، يتضح بلا اي لبس ان الاناركيين يرفضون امتلاك الدولة للارض بالارغام، رغم رؤيتهم الايجابية للملكية التعاونية الطوعية وانها اكثر كفاءة ومن هنا دعم الاناركيين لها (فعليا، اثناء الحرب الاهلية الاسبانية اطلق الاناركيون مبادرات لمئات من عمليات انشاء التعاونيات ولكن اقلية صغيرة فقط من هذه التعاونيات امتلكت كامل الارض، وقد اصبح مسموحا للفلاحين الصغار ان يزرعوا مزارعهم الخاصة دون استخدام العمل المأجور).
منطق بعض الاناركيين المعاصرين (خصوصا انصار الباريكون- "اقتصاد المشاركة" ) يقول بأن المجتمع الرأسمالي لديه ثلاث "طبقات" محورية في عملية التغيير الاجتماعي – وليس طبقتان. الاولى هي طبقة العمال (التي تتضمن كل من يدخل بعمله في انتاج او توزيع السلع اضافة الى كثير مما يسمى صناعة "الخدمات"). وبهذا تتضمن هذه الطبقة الفلاحين، المزارعين واصحاب الملكيات الصغيرة، واصحاب البزنس الصغير الذين يعملون مع عمالهم واصحاب الياقات الزرقاء والبيضاء والوردية . الطبقة الثانية هي طبقة المدراء (coordinator) التي تتضمن كل من تصبح طبيعة عمله بشكل اولي تتعلق "بضبط مسار" وادارة عمل الاخرين ويكون ذلك بهدف مصلحة البرجوازية بشكل اولي، وايضا تتعلق بادارة المؤسسات، واعداد وتأسيس الحالة الفكرية الراهنة، او ادارة جهاز الدولة. التعريف الاناركي "لطبقة المدراء " يتضمن اشخاصا مثل البيروقراطيين، والتكنوقراط، والمدراء ، والاداريين الكبار، ومثقفي الطبقة الوسطى (مثل علماء الاقتصاد، وعلماء السياسة والاجتماع، وعلماء الرياضيات، والفلاسفة، الخ)، وعلماء الطبيعة والقضاة والمحامين وضباط الجيش ومنظمي الاحزاب السياسية والزعماء الخ. واخيرا طبقة النخبة المالكة او "الطبقة الرأسمالية" (والتي تستمد دخلها من خلال سيطرتها على الثروة والارض والملكية والموارد). بل ان هؤلاء الاناركيين يجادلون بالمزيد ان الماركسية تفشل، ولسوف تفشل دائما، لأنها تخلق، وسوف تخلق دائما، ديكتاتورية طبقة المدراء هذه حيث ان "ديكتاتورية البروليتاريا" هي استحالة منطقية. يعتقد البعض ان الماركسية تفشل لان "نمطها الاشتراكي في الانتاج" على المستوى النظري يجعل جهاز الدولة محوريا ويمنحه المكانة والنفوذ مما يجعله بدوره يمنح المكانة والنفوذ لاشخاص من طبقة المدراء هذه ليسيطروا على الدولة ووسائل الانتاج لادارة الطبقة العاملة، متصرفين فعليا بوصفهم طبقة رأسمالية بديلة. ومع ذلك، هذا لا يمثل مشكلة كبيرة امام الماركسيين التحرريين الذين يؤمنون بأن مثل جهاز الدولة هذا يجب ان يعمل من خلال ديموقراطية مشاركة تقودها الطبقة العاملة او حتى في شكل دولة اشبه بدولة الطوائف (Consociational state).
نقاط الاختلاف الرئيسية تتضمن هكذا حقيقة ان الاناركيين لا يميزون بين الفلاحين والبروليتاريا الرثة والبروليتاريا الصناعية وبدلا من ذلك يحددون كل الناس الذين يعملون من اجل تحقيق ربح للاخرين بوصفهم اعضاء في الطبقة العاملة، بغض النظر عن الوظيفة؛ وان الاناركيين يميزون بين النخب الاقتصادية والسياسية التي تضع السياسة ومشاريع الاعمال وبين موظفي الدولة الذين ينفذون هذه السياسات في الوقت الذي يضع الماركسيون المجموعتين في سلة واحدة.
يتهم كلا من الاناركيين والماركسيين بعضهم البعض بأن افكار الاخر تنبع من عقول مثقفي الطبقة الوسطى، بينما يدعي كل منهم ان فكره الخاص ينبع من الطبقة العاملة. فهم يشيرون الى حقيقة ان من ابتدع الماركسية عموما هو حامل لدرجة الدكتوراة، ومدارس الماركسية غالبا ما يطلق عليها اسماء مشتقة من المثقف الذي شكل الحركة من خلال رياضة ذهنية راقية في التنظير الفلسفي والتحليلي. بينما مدارس الاناركية تميل للظهور على اساس مبادئ تنظيمية او شكل من اشكال الممارسة العملية ونادرا (ان لم يكن مطلقا) ما تسمى باسم او تتمحور حول احد الافراد المثقفين. "لدى مدارس الماركسية دائما مؤسسون. وبالضبط، كما أن الماركسية انبثقت من عقل ماركس، فهكذا لدينا اللينينيون Leninists، والماويون Maoists، والالتوسيريون Althusserians. (لاحظ كيف أن القائمة تبدأ برؤساء الدول وتتدرج بلا فواصل حتى تصل إلى أساتذة الجامعات الفرنسيين – الذين بدورهم يستطيعون توليد شيعهم الخاصة: لاكانيون Lacanians، وفوكوديون Foucauldians...). مدارس الأناركية على العكس، تنبثق من بعض أشكال المبادئ التنظيمية أو أشكال الممارسة العملية: النقابيون الأناركيون Anarcho-Syndicalists، الأناركيون الشيوعيون Anarcho-Communists ، والانتفاضويون Insurrectionists ، والبرنامجيون Platformists ، والتعاونيون Cooperatives ، والمجالسيون Councilists ، والفردويون Individualists وهكذا دواليك."
يدافع الماركسيون عن ان افكارهم ليست ايديولوجيات جديدة ولم تخرج عنوة من فكر المثقفين ولكنها افكار تشكلت من خلال التناقضات الطبقية في كل نمط اقتصادي اجتماعي في التاريخ. هم يدافعون بقولهم ان الاشتراكية الماركسية على وجه اخص نشأت من عقول الطبقة العاملة بسبب التناقض الطبقي للنمط الرأسمالي في الانتاج. بعض الماركسيين موقفهم ايضا ان الاناركية قفزت من افكار البروليتاريا (او حتى البورجوازية الصغيرة) الذين همشتهم الرأسمالية بوصفها كفاح ضد قوى الرأسمالية عشوائي وغشيم ورجعي.
محاور الظلم والاضطهاد الاخرى
التحليل الطبقي الماركسي يؤدي الى نتائج تتعلق بالكيفية التي ينخرط فيها الماركسيون مع حركات التحرر الاخرى في قضايا المرأة والسكان الاصليين وجماعات الاقلية العرقية والاقليات الثقافية مثل المثليين جنسيا. يدعم الماركسيون مثل هذه الحركات التحررية، ليس فقط لانها حركات ذات قيمة في حد ذاتها، ولكن ايضا على ارضية انها حركات ضرورية بالنسبة لثورة الطبقة العاملة، والتي لا يمكن لها ان تنجح دون الوحدة معها. ومع ذلك، يؤمن الماركسيون ان المحاولات التي تقوم بها الجماعات النوعية المضطهدة هذه، على اختلاف مجالاتها، من اجل تحرير نفسها سوف تستمر في الفشل ولا تحقق اهدافها كاملة حتى ينتهي المجتمع الطبقي، ولانه في ظل الرأسمالية والمجتمعات الطبقية الاخرى، السلطة الاجتماعية تستقر على اساس الانتاج.
ينتقد الاناركيون ومعهم اخرون الماركسية لوضعها اولوية للطبقة بهذه الطريقة وينتقدون كذلك تفسير الماركسية لاسباب التغيير التاريخي، ومنطقهم في ذلك ان هذا الموقف الماركسي يخفي انواع اخرى من المظالم الاجتماعية والثقافية، والتي تتواجد لاسباب تتعلق بديناميكياتها الداخلية الخاصة. يرى الاناركيون كل حركات التحرر لهؤلاء المضطهدين حركات مشروعة بشكل اصيل، سواء اكانوا فلاحين ام بروليتاريا، او اخرين، دون الحاجة الى تسكين هذه الحركات في مكان معين بمخطط مسبق للثورة. ومع ذلك، هذا الموقف ليس واحدا عبر كل الحركة الاناركية، فالعديد من الاناركيين يؤمنون ان كفاحات قضية واحدة بمفردها، تصبح محدودة الابعاد للغاية، رغم انهم يشاركونها (مثل الماركسيين) كفاحاتها ويحاولون دفع مواقفها للامام وتحسين اساليب كفاحها بطريقة اناركية.
يميل الماركسيون الى رؤية الناس مشتركين في وعي طبقي معين قائم على اساس الوضع الذي يحتلونه في المجتمع الرأسمالي. يؤمن الماركسيون ان الناس تشترك في مجموعة من القيم والتصورات العقلية الجماعية اقتصادية-اجتماعية وان الحرية تأتي من تحرير الطبقة من قيود وضعها الطبقي، وهكذا يمكننا تمكين المرء الفرد فعليا. الاناركيون من ناحية اخرى يميلون الى رؤية الناس بوصفهم افراد اجتماعيين يعيشون ظرفا مشتركا في المجتمع الرأسمالي، ولكنهم لا يشتركون بالضرورة في وعي طبقي منسجم. يؤمن الاناركيون ان الحرية تنبع من تمكين الفرد حتى يحررون انفسهم من الخضوع والتبعية والطاعة للقوى السلطوية والتراتبية الهرمية، وهكذا يشجعون الافراد على نسج علاقات بشكل حر وجماعي مع بعضهم البعض.
الدين مساحة اخرى للاختلاف بين الاناركيين والماركسين. يرى الماركسيون الدين كاداة برجوازية للهيمنة على عقول الطبقات الدنيا والتبشير للخنوع امام السلطة وقبول الوضع الراهن في مقابل وعود بمكافآت عظيمة في المستقبل. يتفق الاناركيون مع هذا التحليل، ولكنهم لا يعتقدون ان كل الاديان بحكم تكوينها تقوم بهذه الوظيفة. يميل الماركسيون الى تصوير المجتمع الشيوعي الخالي من وجود دولة مجتمعا خال ايضا من وجود الدين، بل انهم احيانا يروجون للعنف ضد رجال الدين والمؤسسات الدينية. رغم ذلك، هناك من الماركسيين الكاثوليك في امريكا اللاتينية الذين يتخذون مواقف ماركسية تحركهم دوافع لاهوت التحرير ومنهم من انضم حتى الى القتال في صفوف رجال حرب العصابات مثل حالة الراهب الكولومبي الشهير كاميليو توريس الذي قاتل في صفوف جيش التحرر الوطني الكولومبي ومات في احد المعارك. يستمر ماركسيون من لاهوت التحرير حتى اليوم في العمل بين صفوف حركة المنظمات الاجتماعية القاعدية كما هي الحالة في حركة الفلاحين بلا ارض البرازيلية. وبينما يروج الاناركيون احيانا للعنف ضد مؤسسات دينية معينة طاغية وسلطوية، فالاناركية اشتهرت تاريخيا انها تتقبل برحابة صدر اكبر الروحانيات الشخصية والاديان التي تدعو للمساواة وتمارسها. ايضا اكتسبت الاناركية تاريخيا دعما اكبر بين الطوائف الدينية وفي اوقات واماكن متنوعة جذبت اشكال اناركية من المسيحية والبوذية والهندوسية والاديان الاخرى عشرات الالاف من الاعضاء. بعض الاناركيون يتصورون مجتمع المستقبل مجتمعا خال من الاديان بينما يتصوره اخرون منهم مجتمعا يحتفظ باشكال مساواتية من الاديان وروحانيات حرة منفتحة.
العلاقة بالسكان الاصليين والامم دون دولة
يختلف الاناركيون والماركسيون فيما بينهما اختلافا بينا في علاقتهم بالسكان الاصليين والاقليات القومية. في البدايات الاولى لكلا الحركتين تنبأ المفكرون من ماركس الى باكونين الى كروبتكين ان الثورة القادمة سوف تكتنس كل التمايزات بين الهويات القومية، وان عمال العالم ليس لديهم "امة"، وان الشكل الطبيعي للاشتراكية كان هو الاممية التي لا تعترف بالحدود ولا تحترمها. ظل هذا هو الموقف الثابت لكل معسكر اليسار المعادي للرأسمالية حتى اوائل القرن العشرين وما زال يمتلك تأثيرا ملموسا في دوائر كلا من الاناركية والماركسية حتى اليوم.
اثناء السنوات التي ادت الى الثورة الروسية، وجد لينين والبلاشفة انه من المناسب قطع وعود بالاستقلال للاقليات القومية من السكان الاصليين العديدين غير الروس الذين يعيشون داخل حدود الامبراطورية القيصرية الشاسعة، خصوصا الاوكرانيين والبولنديين، في مقابل كسب دعمهم ضد القيصر. وفور استيلائهم على السلطة تبخرت كل هذه الوعود وتحطمت كل الحركات القومية في انحاء روسيا كلها وفي انحاء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية فيما بعد وبشكل وحشي، حطمها لينين وتروتسكي وستالين وكل خلفائهم استمروا في نفس السياسة حتى انهيار الاتحاد السوفيتي كوحدة سياسية. في سنوات ما قبل احتدام الحرب العالمية الثانية، تمحورت سياسة الاتحاد السوفيتي الخارجية حول فكرة البلشفية القومية (الاشتراكية في وطن واحد)، عبرها سعت النخبة السياسية البلشفية في روسيا الى تحريض ودعم ثورات شيوعية-قومية في انحاء العالم، ابرزها الثورة في المجر والمانيا، ثم بعدها يقوم المركز بابتلاع المناطق الجديدة المستقلة في كومنولث سوفيتي – وهو الهدف الذي تحقق بعد الحرب العالمية الثانية مع حلف وارسو. فشل محاولة الهبة البلشفية القومية في المانيا عام 1939 عوقت اليسار الالماني، ومهدت الطريق لنهوض النازي واستيلاؤهم على السلطة وكانت الاثار الجانبية لهذه العملية الفاشلة حاسمة في السماح لستالين بالانفراد بسلطة الكرملين وطرد وقتل منافسيه الداخليين. عناصر هذا الفكر استمرت في السياسة الخارجية السوفيتية طوال سنوات الحرب الباردة وساعدت على خلق جاذبية لدعم الحركات الوطنية والمناهضة للامبريالية في انحاء العالم الثالث. وكانت تلك هي ايضا الدوافع التي حكمت معونة روسيا للحزب الشيوعي الصيني اثناء الثورة الصينية، لكن فور استيلاء ماو على السلطة رفض السماح للاتحاد السوفيتي بالسيطرة على السياسة الصينية، مما ادى الى الخلاف مع ستالين الذي تصاعد الى حرب قصيرة بين القوتين. وهو نفس السياق الذي حدث فيما بعد بين الحكام الشيوعيين في الصين وفيتنام.
اثناء الثورة الصينية حدث سياق مواز عندما وعد ماو والحزب الشيوعي الصيني في البداية كل امم الصين العديدة، التي تعيش بلا دولة خاصة بها على ارض الصين الشاسعة ، بالاستقلال وحق تقرير المصير، ثم لم يرفض ماو والحزب الشيوعي الصيني الوفاء بالوعود فور استيلاءهم على السلطة وفقط ولكنهم فعليا قاموا بغزو والحاق التبت، التي كان يعتبرها ماو مقاطعة رجعية. كل الحكومات الشيوعية المتتالية في انحاء العالم اتبعت نفس السياق في اطلاق الوعود اولا للاقليات القومية من السكان الاصليين بحق تقرير المصير من اجل اكتساب تأييدهم ثم المعارضة النشيطة لحقوقهم في تقرير المصير فور استيلاءهم على السلطة. الموقف الثابت الذي لا يلين ولا يتغير، السياسة العامة للحكومات الماركسية بداية من لينين فصاعدا كانت دعم النزعة القومية الثورية وحقوق جماعات الاقلية القومية نظريا ومعارضتها في الممارسة العملية. الاحدث، حركة الساندينستا في نيكاراجوا متهمة، بعد استيلاؤها على السلطة، بتنفيذ حملات تطهير عرقي ضد الشعوب الاصلية في البلاد من اجل الاستيلاء على اراضيهم.
موقف الاناركية هو لحد ما النقيض من ذلك. معظم الاناركيين، تاريخيا وحتى اليوم، يرى في الحدود والتقسيمات القومية امرا مدمرا ويتصورون عالما تتلاشى فيه التمايزات العرقية والعنصرية وتختفي مع الوقت بوصف هذا العالم هو العالم المثال. ومع ذلك، في الممارسة العملية، يقوم بنيان الاناركية على اساس انظمة ذات حجم صغير تتمتع بحق تقرير المصير، والحاكمية المحلية الذاتية، والعون المتبادل الذي يشبع رغبات الاقليات القومية في تقرير مصيرها على اساس من الامر الواقع؛ وبهذا المنوال اصبحت الاناركية تاريخيا متصالحة مع اشكال من القومية المناهضة للدولة. احد ابرز اشكال هذا التعاون بين نزعة الاقليات القومية للاستقلال الذاتي والاناركية كان التعاون مع الحركات التي تناضل من اجل الحكم الذاتي في قطالونيا واقليم الباسك في اسبانيا والذي وجد تعبيرا عنه تحت راية الكونفدرالية الوطنية للعمال اثناء الحرب الاهلية الاسبانية. والاحدث هو محاولة الانصهار الصريح بين الاناركية والتقاليد السياسية للامريكيين الاصليين التي تجد تعبيرا عنها في حركة السكان الاصليين الحديثة (indigenist movement). المنظمات القومية المناهضة للدولة والتي تصف عملها السياسي بصفة الاناركية توجد حاليا في ايرلندا. والعديد من اعضاء حركة الهنود الامريكيين المعاصرة يعتبرون انفسهم اناركيين.
المادية التاريخية
المادية التاريخية هي مقاربة منهجية لدراسة المجتمع والاقتصاد والتاريخ صاغها بادئ ذي بدء كارل ماركس.
انقى صياغة عند ماركس "لمفهومه المادي للتاريخ" كان في مقدمة كتابه الشهير، "الرأسمال" : "في الانتاج الاجتماعي لوجودهم، يدخل البشر حتميا في علاقات محددة، مستقلة عن ارادتهم، وهي بالاسم علاقات الانتاج التي تلائم مرحلة معينة من تطور قوى الانتاج المادية. الحصيلة الكلية لعلاقات الانتاج هذه تؤسس البنية الاقتصادية للمجتمع، الاركان الحقيقية له، التي تنهض عليها البنية الفوقية القانونية والسياسية المتوافقة بدورها مع اشكال محددة من الوعي الاجتماعي. نمط انتاج الحياة المادية يكيف المسيرة العامة للحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية ويطبعها بطابعه. انه ليس وعي البشر الذي يحدد وجودهم، ولكن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".
استمد ماركس صيغة المادية التاريخية من مفهوم الديالكتيك (الجدل) الذي وضعه هيجل الفيلسوف الالماني السابق عليه. خرجت هذه الطريقة من الافتراضات القائلة بأن اي ظاهرة طبيعية تتكون من خلال تباينها مع ظاهرة اخرى، وان ما هو كمي يمكن رؤيته بشكل نوعي، وأن الفهم الدقيق لما يمثل ظاهرة عشوائية هو امر ممكن (على غرار العديد من مبادئ عدم اليقين الفيزيقية). ماركس وشريكه في العمل فردريك انجلز "قلبا هيجل على رأسه" وحجتهم هي ان تلك الطرائق يمكن تطبيقها على المجتمع الانساني في شكل المادية التاريخية، لذلك يمكن دراسة الطبقات باستخدام التباين بين صاحب الملكية والعامل مثلا، او بتناول ما هو كمي للخروج بما هو نوعي، مثل تفسير التوزيع الغير عادل للملكية الخاصة من اجل اظهار المظالم الطبقية.
ورغم ان ماركس نفسه لم يستخدم مصطلح المادية التاريخية ابدا، (كان يشير اليه بوصفه "المادية الفلسفية"، وهو مصطلح استخدمه ليميزه عما سماه "المادية الشعبوية")، ففي السنوات الاخيرة من عمره، عام 1877، كتب ماركس رسالة الى رئيس تحرير الصحيفة الروسية "اوتيتشيستفيني زابيسكي (Otetchestvennye Zapisky)"، احتوت على هذا التصحيح ذو المغزى الكبير: ".... لو ان روسيا تنوي ان تصبح امة رأسمالية على منوال بلدان اوروبا الغربية، واثناء السنوات الاخيرة الماضية تحملت كثير من الصعاب في هذا الاتجاه – فهي لن تنجح دون ان تتحول اولا بقدر كاف من فلاحيها ليصبحوا بروليتاريا؛ وبعد ذلك، فور انتقالها الى الاحضان الدافئة للنظام الرأسمالي، سوف تجرب روسيا قوانين هذا النظام الذي لا يرحم مثل باقي الشعوب التي ارتكبت هذه الخطيئة. هذا هو كل شيء. ولكن ذلك لا يكفي ناقدي. انه يشعر من جراء نفسه انه ملزم بتشويه مخططي التاريخي الذي وضعته حول نشوء وتكون الرأسمالية في غرب اوروبا وحوله هو الى نظرية فلسفية تاريخية للمسيرة العمومية التي فرضها القدر المحتوم على كل شعب، مهما كانت الظروف التاريخية التي يجد فيها هذا الشعب نفسه، من اجل هدف محتمل وهو وصول هذا المجتمع في نهاية المطاف الى شكل من الاقتصاد يضمن، بالتوسع الاكبر في قوى العمل الاجتماعي المنتجة، بلوغ التنمية الكاملة الاعظم للبشر. ولكني استميحه عذرا. (انه يسبغ على شرفا وفي نفس الوقت يلطخ سمعتي بشكل بالغ)".
اما انجلز فقد كتب: "انا استخدم ’المادية التاريخية‘ لاضع مخططا حتى ارى مسار التاريخ السابق، الذي يسعى نحو الغايات النهائية والقوة المحركة العظمى، في كل الاحداث التاريخية الهامة للتطورات الاقتصادية في المجتمع، وأراه في التغييرات الحادثة بانماط الانتاج والتبادل، مع التقسيم التالي للمجتمع الى طبقات متمايزة والصراع بين تلك الطبقات ".
ورغم ان ماركس قد قال انه بذلك يقترح خطوطا استرشادية للبحث التاريخي، اصبح مفهوم المادية التاريخية بحلول القرن العشرين احد اركان المذهب الشيوعي، وقد توسع في بناءه وصقله مثقفون ماركسيون كبار مثل ادوارد برنشتاين وكارل كاوتسكي وجيورجي بليخانوف ونيكولاي بوخارين اضافة الى الاف من الدراسات الاكاديمية منذ وفاة ماركس وانجلز، حتى الان.
وهكذا اصبح الماركسيين يستخدمون شكلا لتحليل المجتمعات الانسانية يسمى "المادية التاريخية"، يفترض دائما ان البشر من اجل البقاء يستغلون الطبيعة معا بشكل جماعي من اجل انتاج وسائل العيش. ولكن بالطبع لا يؤدي جميع البشر نفس الاعمال، ولذلك يقوم بينهم تقسيم للعمل حيث يتكفل كل منهم بوظائف تختلف عن الاخرين. ولكن بعض الناس يعيشون على عمل الاخرين نتيجة لامتلاكهم وسائل الانتاج. والطريقة التي يتم بها ذلك تختلف باختلاف نوع المجتمع. وبناء عليه تفترض المادية التاريخية ان المجتمع ينتقل عبر عدد من الانواع او انماط الانتاج. تتضمن هذه الانماط عموما المشاعية البدائية او المجتمع القبلي (مرحلة ما قبل التاريخ)، والمجتمع القديم والاقطاعية والرأسمالية. في كل من هذه المراحل الاجتماعية يتفاعل الناس مع الطبيعة ويصنعون سبل عيشهم بطرق مختلفة. يتم توزيع فائض الانتاج بطرق متنوعة. المجتمع القديم يقوم على الطبقة الحاكمة من مالكي العبيد وطبقة العبيد، والمجتمع الاقطاعي يقوم على ملاك الارض الكبار واقنانهم. ينتظم المجتمع الرأسمالي على اساس الرأسماليين الذين يملكون وسائل الانتاج، والتوزيع والتبادل (اي المصانع والمناجم والدكاكين والبنوك)، والطبقة العاملة التي تعيش على بيع عملها للرأسماليين مقابل الاجر.
على قمة هذا التحليل المادي التاريخي تقف فكرة ان الناس يجدون انفسهم اسرى عالم مادي محدد مسبقا، وان تحركاتهم من اجل احداث تغيير فيه تصبح داخل اطار ما يستطيعون هم تصوره عنه او وعيهم به. وبشكل خاص اكثر، علاقات الانتاج الاقتصادية الاكثر جوهرية، هي القوة المحركة والدافعة للتاريخ، وتجد تفسيرها في ميادين "البنية الفوقية" من الايديولوجيا والقانون، على الاقل في المدى الطويل.
طبقا للعديد من الماركسيين الذين وقعوا تحت نفوذ الماركسية السوفيتية، المادية التاريخية هي اسلوب من اساليب علم الاجتماع، بينما المادية الجدلية تتعلق بالفلسفة الاكثر عمومية وتجريدا. الادبيات الماركسية الارثوذكسية السوفيتية، صاحبة النفوذ القوي والتأثير القوي لمدة نصف قرن، قامت على مبادئ كتيب جوزيف ستالين "المادية الجدلية والمادية التاريخية"، وعلى المراجع التي اصدرها "معهد الماركسية اللينينية التابع للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي".
وعلى الجانب الاخر، يستخدم الاناركيون نوعيات واسعة من الادوات للتحليل الاجتماعي وبعضهم يرون جدارة في المادية التاريخية بوصفها اداة للتحليل الاجتماعي. الا ان معظم الاناركيين يرفضون المادية التاريخية بوصفها علم كاذب يقوم على اساس مزاعم عمومية لم تختبر ومصطنعة. كان الاناركيون من بين الاوائل الذين انتقدوا اتجاه الديالكتيك المادي على هذا الاساس، وعلى اساس انه ينزع انسانية التحليل السياسي والاجتماعي ولا يمكن الاعتماد عليه باستمرار كمنهجية شاملة.
الحتمية التاريخية
التفسير البسيط للمادية التاريخية يفترض انه لو كانت الماركسية على حق في فهمها للقوى الطبقية التي تتصارع في ظل الرأسمالية، فثورة الطبقة العاملة الناجحة هي امر حادث لا محالة. ففي تحليله لحركة التاريخ، تنبأ ماركس بانهيار الرأسمالية (نتيجة للصراع الطبقي وانهيار معدل الربح)، وتأسيس مجتمعا شيوعيا في الوقت المناسب يمكن التغلب فيه على الصراع بين البشر، القائم بسبب الصراع بين الطبقات.
وما هو حقيقي بدرجة كبيرة هو ان ماركس وانجلز كان ينظرا الى مسارات التاريخ بوصفها مسارات تحكمها قوانين، وان الاتجاهات المستقبلية الممكنة للتطور التاريخي محدودة ومحكومة بقدر كبير بما قد حدث من قبل. وبالنظر الى الوراء، يرى ماركس وانجلز انه يمكن فهم المسارات التاريخية التي حدثت في الماضي بوصفها حدثت بحكم الضرورة بطريقة معينة وليست اخرى، ولحد ما على الاقل، يمكن تحديد المتغيرات الاكثر ترجيحا في المستقبل على اساس دراسة متأنية لحقائق معلومة.
بعض الماركسيين، خصوصا زعماء الدولية الثانية في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، آمنوا بذلك. ومع ذلك، الدرجة التي يجب ان تصنع بها الثورة قوى واعية، كانت دائما قضية محل خلاف بينهم، والعديد منهم دافع عن موقفه بأن مقولة ماركس الشهيرة، "انا لست ماركسيا" هي رفض للحتمية التاريخية. وقد تعمق هذا الانشقاق بالحرب العالمية الاولى، عندما دعم كل حزب من احزاب الاشتراكية الديموقراطية في الدولية الثانية المجهود الحربي للامة التي ينتمي اليها هذا الحزب منهم او ذاك، باعتبار أن انتصار الرأسمالية في وطنها سوف يفسح المجال للانتصار النهائي الحتمي لبروليتاريتها. العديد من خصوم الحرب الماركسيين، مثل روزا لكسمبورج، القوا باللوم على "خيانة الدولية الثانية" جزئيا بسبب مذهبهم في حتمية الاشتراكية، الذي يبرر محاولتهم اصلاح الدول الرأسمالية القائمة. بدائل المستقبل التي طرحتها روزا لكسمبورج بديلا عما يطرحه زعماء الاشتراكية الديموقراطية كانت "الاشتراكية او البربرية".
وحيث ان معظم الاناركيين يرفضون الديالكتيك والمادية التاريخية، فهم لا يزعمون ان الثورة واعادة تنظيم المجتمع هي امور حتمية، فقط هم يرونها امور مرغوب بها [جدا].
كتب لينين كتابه الدولة والثورة بين اغسطس وسبتمبر 1917، ولكنه لم ينشر الا بعد استيلاء البلاشفة على السلطة في نوفمبر 1917.
فردريك انجلز، اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة، ص ص: 177-188. طبعة شتوتجارت الالمانية المنشورة عام 1894
فلاديمير ايليتش لينين، الدولة والثورة، ديسمبر 1918، الفصل الاول.
ديفيد جريبر، مقالة غروب الطليعة، يونيو 2001، موقع زي نت العربية.
فلاديمير ايليتش لينين، الاعمال الكاملة، المجلد الخامس، النسخة الانجليزية، ص 353.
فلاديمير ايليتش لينين، المرجع السابق، ص 375.
فلاديمير ايليتش لينين، المرجع السابق، ص 389.
فلاديمير ايليتش لينين، المرجع السابق، ص ص 354-364.
ديفيد جريبر، الاناركيون الجدد، نيو لفت رفيو، فبراير 2002.
ديفيد جريبر، المرجع السابق.
انظر الجزء الاخير من مقالته في هذا الكتاب، "كوميونة باريس وفكرة مبدأ الدولة".
مايكل البرت، الباريكون: او الحياة بعد الرأسمالية، دار نشر فرسو، 2003.
الياقات الوردية اللون هي صفة تتعلق بشريحة من الوظائف والاعمال مثل كتابة الخطابات والمذكرات او سويتش التليفونات وهي مهن تقليديا كانت تشغلها النساء (السكرتيرة وعاملة التليفون...).
يعرف علماء الاجتماع السياسي دولة الطوائف تلك بوصفها دولة مجتمع ينقسم الى طوائف داخلية عرقية او دينية او لغوية دون وجود حجم واضح كبير لاحدها لتشكل جماعة اغلبية، الا ان دولة هذا المجتمع الطائفي تدير هذا الانقسام بطريقة ما تحافظ على استقراره، نتيجة للتشاور الدائم بين نخب كل قسم ولوجود توازن دقيق بين السلطة التشريعية والتنفيذية. اشهر هذه الدول هي سويسرا وبلجيكا والهند ولبنان واسبانيا.
اذا كانت هذه الفرقة تسمى باسم نستور ماخنو، فهو ليس مثقفا نظريا ولكنه مناضل حركي، كما انهم يتعرضون لهجوم شديد من مدى واسع من الاناركيين، حيث تتهم هذه الفرقة بممارسات سلطوية ونزوع لبناء اشكال هرمية من التنظيم وفرض ايديولوجية على اعضاءها. ولكن هذه الفرقة تسمي نفسها اسما اخر وهو اللائحيون او البرنامجيون "platformist".
ديفيد جريبر واندريه جروباتشيك، الاناركية او الثورة في القرن الواحد وعشرين، موقع زي نت العربية.
كارل ماركس، الرأسمال "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، طبعة عام 1859
فردريك انجلز، الاشتراكية العلمية والطوباوية، ص 16. الناشرون الدوليون، نيويورك.
الأربعاء، 18 مايو 2011
كتاب الاناركية مجتمع بلا رؤساء- أحمد زكي3 من 5
نستور ماخنو وزيارة إلى الكرملين
ترجمة وتقديم: أحمد زكي
موجز تاريخ حياة ماخنو
نستور ماخنو ثوري اوكراني، ولد في عائلة فقيرة ببلدة جولاي بولايي، باوكرانيا، وهو اصغر اخواته الخمس. سجلت عائلة ماخنو ابنها من مواليد عام ١٨٨٩ في محاولة لتأجيل تجنيده في الجيش القيصري، ولكنه ولد في ٢٦ اكتوبر ١٨٨٨ ومات في ٢٥ يوليو ١٩٣٤. درس ماخنو في مدرسة دينية بعض الاشياء البسيطة بين الثامنة والثانية عشر من العمر. بعد الثورة الروسية الاولى في ١٩٠٥، انضم ماخنو سريعا لجماعة من الاناركيين وانخرط في عمليات سطو مسلح، ونهب اموال وقتل التجار الاثرياء ورجال الشرطة. في ١٩١٠ صدر ضده حكم بالاعدام شنقا لكن بدلا من ذلك ارسلوه الى سجن بوتيرسكايا بموسكو حيث امضى هناك ستة اعوام. سمحت له فترة السجن ترقية تعليمه ومعارفه، من خلال رفاق الزنزانة (من اهم من ساعده على ذلك كان بيوتر اركينوف). بعد ثورة فبراير ١٩١٧، اطلق سراح ماخنو، لينضم الى الحركة الثورية في اوكرانيا وساعد في تنظيم عملية مصادرة اموال وممتلكات كبار ملاك الاراضي والرأسماليين هناك.
في اوائل عام ١٩١٨، وقعت الحكومة البلشفية الجديدة في روسيا معاهدة برست ليتوفسك للسلام مع قوى المحور، ولكنها بموجب هذه المعاهدة تنازلت عن مساحات واسعة من المناطق التي كانت تحت حكمها ومن ضمنها اوكرانيا. لم يرغب سكان اوكرانيا في الوقوع تحت حكم قوات المحور، ولهذا نشب التمرد هناك. تشكلت وحدات من الانصار وشنت حرب عصابات ضد القوات الالمانية والنمساوية، وسرعان ما اتخذ هذا التمرد نبرة سياسية اناركية. كان نستور ماخنو واحد من المنظمين الرئيسيين لجماعات الانصار تلك، والتي توحدت في جيش الانتفاضة الثوري لكل اوكرانيا، وايضا اطلق عليه اسم الجيش الاسود (لان مقاتليه كانوا يحاربون تحت علم الاناركية الاسود)، واطلق عليهم ايضا "الماخنويين" او "ماخنوفشيشينا". دخل الجيش الثوري لانتفاضة اوكرانيا عدد من المعارك ضد البيض (الثورة المضادة) ومرتكبي مذابح معاداة السامية. في المناطق التي طرد منها جيش اوكرانيا الثوري الجيوش المعارضة، سعى القرويون (والعمال) الى الغاء الرأسمالية والدولة من خلال تنظيم انفسهم في مجالس قروية، وكوميونات ومجالس حرة. تمت مصادرة المصانع والارض الزراعية ووضعت تحت سيطرة اسمية للعمال والفلاحين، ولكن من شغل منصب العمد والعديد من المناصب الرسمية اتوا مباشرة من بين صفوف انصار ماخنو العسكريين، بدلا من الشغيلة المحليين. وّهو محل جدل حتى اليوم اذا ما كانت حكومة ماخنو اكثر ديموقراطية في تلك الفترة ام لا.
المنطقة المحررة (اوكرانيا الاناركية)
وجد الهيتمان ، بافلو سكوروباديسكي، رئيس الحكومة الالعوبة في الدولة الاوكرانية، صعوبات جمة في محاولاته للسيطرة على اوكرانيا بينما يواجه جيش ماخنو التحرري. وهكذا، تم استدعاؤه الى المانيا بعد انهيار الجبهة الغربية الالمانية. في مارس ١٩١٨، نجح الجيش الثوري الاوكراني في هزيمة القوات الالمانية والنمساوية والقوميين الاوكرانيين بزعامة سايمون بيتلورا، والعديد من قطاعات الجيش الابيض.
عند هذه النقطة، تحول الدور العسكري لماخنو الذي اضطلع به في سنوات عمره الاولى الى دور تنظيمي. اصدر المؤتمر الاول لكونفدرالية الجماعات الاناركية، المسماة الناباط (“الجرس")، خمس نقاط رئيسية: الشك في كل الاحزاب السياسية، ورفض كل الديكتاتوريات (وبشكل رئيسي تلك التي تفرض على الشعب من اعلى)؛ ونفي اي مفهوم للدولة، ورفض اي "فترة انتقالية" او "استبداد البروليتاريا"، والادارة الذاتية لكل العمال من خلال مجالس العمال الحرة (السوفيتات). وفي الوقت الذي دافع فيه البلاشفة عن منطق ان مفهومهم "ديكتاتورية البروليتاريا" يعني بالدقة "حكم مجالس العمال"، عارض برنامج ماخنو هذا التدبير البلشفي "الانتقالي" الذي يخفي تحته "ديكتاتورية الحزب".
زعم انصار ماخنو، من نوفمبر ١٩١٨ حتى يونيو ١٩١٩، انهم يخلقون مجتمعا اناركيا في اوكرانيا يمارس العمال والفلاحون فيه الحكم بطريقة ديموقراطية.
الثورة المضادة: الضربات المضادة البيضاء والحمراء
قاوم الماخنويون محاولات اجتياح الجيش الابيض الاوكراني للبلاد من الجنوب والشرق لمدة ثلاث اشهر قبل ان تنضم الى مجهودهم الحربي وحدات الجيش البلشفي. ولكن حتى بعد انضمام الجيش البلشفي للحرب، حافظ الاناركيون على استمرار هياكلهم السياسية الرئيسية مستقلة ورفضوا القبول بالقوميساريين السياسيين ا لذين عينهم البلاشفة. قبل الجيش الاحمر مؤقتا هذه الشروط، ولكن سرعان ما توقف البلاشفة عن امداد الماخنويين بالامدادات الرئيسية، مثل الحبوب والفحم. تم حظر صحيفة الناباط (كونفدرالية الجماعات الاناركية الاوكرانية) واعلن المؤتمر الثالث خصوصا مؤتمر بافل ديبينكو) تجريم الماخنوية والثورة المضادة، ورد مؤتمر الاناركيين على ذلك في تساؤل علني، "هل يمكن ان يوجد قانون يصنعه قلة من الاشخاص يسمون انفسهم ثوريين، تسمح لهؤلاء ان يعلنوا تجريم شعب بأكمله اكثر ثورية منهم؟ " التبرير الذي اعطته الصحافة البولشفية لهذا الصدام مع الاناركيين هو ان "دولة ماخنو الاناركية" هي نظام حكم امير حرب مناصبها المدنية يعين هو والقادة العسكريون الاخرون اشخاصها (ولا ينتخبون)، وأن ماخنو نفسه رفض تزويد عمال السكك الحديدية وعمال التلغراف السوفيت بالطعام، وان "القسم الخاص" للهيئة الاناركية يقوم بعمليات اعدام وتعذيب سرية، وان قوات ماخنو قد اغارت على قوافل الجيش الاحمر التي تحمل الامداد والتموين، وسرقت سيارة مدرعة من بريانسك كانت في انتظار اصلاح عطب بها يقوم به الاناركيون، وان الناباط مسئول عن اعمال دموية ارهابية في المدن الروسية.
ارسل لينين سريعا ليف كامينييف الى اوكرانيا، حيث عقد هناك لقاءا وديا مع ماخنو. بعد مغادرة كامنييف لاوكرانيا، اوقع ماخنو برسالتين ارسلت بهما قيادة البلاشفة لجيشهم في اوكرانيا، الاولى تصدر اوامر للجيش الاحمر بالهجوم على قوات ماخنو، والثانية تأمر باغتياله. ارسل تروتسكي، بعد المؤتمر الرابع للكونفدرالية الاناركية فورا، باوامر صريحة للقبض على كل عضو من اعضاء المؤتمر، ثم اعلن ما شاع بعدها انه "من الافضل التخلي عن اوكرانيا باكملها وتسليمها لقوات دينيكن هناك (الجيش الابيض) من السماح بتوسع سيطرة اتباع ماخنو" . واستمر الجدل حول ان تروتسكي كان يفضل التعامل مع قوات الحرس الابيض في جبهة اوكرانيا عن التعامل مع جيش فلاحين محايد، حيث كان الجيش الاحمر وقتها في مواجهة مع البيض والقوات الاجنبية حينئذ في جميع الاتجاهات. رد ماخنو على الهجوم الاحمر هذا كان هو الهرب مع اقرب مساعديه. تعرضت قوات تروتسكي بعدها الى ضربة قوية من قوات دينيكن ارغمته على الانسحاب من اوكرانيا. اعاد ماخنو تشكيل قواته واجبر قوات دينيكين المنهكة على التراجع، وحافظ على تماسك جيش الانتفاضة الثوري لاوكرانيا.
جماعة ماخنو
ازدادت قوة وشعبية ماخنو كثيرا، وتحولت الحركة الماخنوية مرة اخرى الى ادارة عملية التنظيم الذاتي للبلاد، واتبعت المبادئ الاناركية بتحطيم السجون ومراكز الشرطة واطلقت حرية التعبير والضمير وانشاء الجمعيات وحرية الصحافة. انخفضت قوات ماخنو للنصف نتيجة لتفشي وباء التيفوس في صفوفها، حينئذ بدأ تروتسكي يمارس ضرباته العدائية ضدهم مرة اخرى.
عقدت هدنة جديدة بين قوات ماخنو والحرس الاحمر في اكتوبر ١٩٢٠ عندما اقتربت القوتان من المقاطعات التي يسيطر عليها جيش رانجل الابيض. كانت القوات الماخنوية لا تزال ترحب بمساعدة الجيش الاحمر، ولكن عندما تم القضاء على البيض تماما وطردهم من منطقة القرم، انقلب الشيوعيون على ماخنو مرة اخرى. اوقع ماخنو بثلاث رسائل سرية من لينين الى كريستيان راكوفسكي، رئيس حكومة البلاشفة في اوكرانيا. كانت اوامر لينين هي القبض على كل اعضاء منظمة ماخنو ومحاكمتهم كمجرمين جنائيين معتادين.
المنفى
في اغسطس ١٩٢١، اضطر ماخنو وقد استنفذ البلاشفة قواه الى ان يخرج في النهاية من اوكرانيا مطاردا، حيث فر اولا الى رومانيا، ثم الى بولندا واخيرا وصل الى باريس. في ١٩٢٦، وقد انضم الى منفيين روس اخرين في باريس كجزء من جماعة "دييلو ترودا" (قضية العمال)، شارك ماخنو في كتابة ونشر البرنامج التنظيمي للشيوعيين التحررين، الذي طرح افكارا في كيفية تنظيم الاناركيين لانفسهم على اسس مستمدة من تجاربهم في اوكرانيا الثورية وهزيمتهم على ايدي البلاشفة. رفض معظم الاناركيون هذه الوثيقة بشكل اولي عند صدورها، ولكنها اليوم تتمتع بقبول واسع. لا تزال هذه الوثيقة محل جدل ونقاش حتى اليوم، وتستمر في اثارة الهام بعض الاناركيين بسبب وضوح افكارها وحيوية الهياكل التنظيمية التي تقترحها، في نفس الوقت الذي تستثير فيه من الناحية الاخرى نقد الاخرين ، الذين رأوا فيها تزمتا شديدا وانها تبني تراتب هرمي قاسي.
في نهاية حياته، عاش ماخنو في باريس، وعمل كنجار وفني ديكورات في اوبرا باريس وستديوهات السينما هناك.
مات ماخنو عام ١٩٣٤. بعد وفاته بثلاث ايام اقيم حفل تأبين له، بحضور ٥٠٠ شخص في مدافن بير لا شيز الشهيرة.
زيارتي للكرملين بقلم نستور ماخنو
مقدمة المترجم
زار الاناركي الاوكراني الفلاح نستور ماخنو موسكو في يونيو ١٩١٨ وقام بعقد لقاءات مكثفة مع الزعيمين البلشفيين سفردلوف ولينين. بعد ذلك بسنوات عدة، كتب ماخنو، في منفاه بفرنسا، مذكراته عن السنتين الصاخبتين ١٩١٧ ١٩١٨. "زيارتي للكرملين" هي ترجمة لفصلين يعرضان لقاءات ماخنو مع العمالقة البلاشفة. هناك مقتطفات عدة عن هذه اللقاءات في اعمال شتى بالانجليزية ولكن الرواية الكاملة لهذه اللقاءات تظهر هنا لاول مرة (١٩٧٩) .
موسكو في يونيو 1918
تمتع نظام حكم البلاشفة في يونيو 1918 بفترة استرخاء قصيرة بعد التقلصات العنيفة للثورة والحرب الاهلية. لم يكن البلاشفة في اوضاع خطر عسكري مباشر، رغم حصار القوات المعادية لهم من كل الجوانب. عنق الزجاجة اللطيف هذا، الذي استمر من معاهدة بريست ليتوفسك (مارس 1918) الى انهيار قوات المحور في اخر السنة، سمح للبولشفيك بتماسك وتمتين قوتهم السياسية والعسكرية.
من وجهة نظر الاناركيين الروس، مثلت معاهدة بريست ليتوفسك مصدرا للثورة. دفع البلاشفة، باتفاقهم مع قوات المحور، ثمنا فادحا تمثل في تنازل عن اراض وعن ثروات طبيعية. الا انه، بل والاكثر اهمية، فضل البلاشفة صنع حلف مع الامبرياليين على ان يحاولوا نشر الثورة من خلال المبادرات الشعبية، وخصوصا، حروب الانصار .
بعد صلح بريست ليتوفسك (مع الالمان) بوقت قصير انقلب البلاشفة ضد حلفائهم اللدودين، الاشتراكيون الثوريون اليساريون والاناركيين. جهاز التشيكا، الذي كان السبب الظاهري وراء انشاءه هو قمع قوى الثورة المضادة، اطلقوه على منتقدي البلاشفة من ارضية يسارية. الذريعة المباشرة لقمع اناركيي موسكو نشأت عندما اشتكى ممثل الحكومة الامريكية من سرقة سيارته واتهم الاناركيين. (طبقا لممثل الحكومة البريطانية، بروس لوكهارت، لقد كانت سيارة تروتسكي هي السيارة التي سرقت). في ليلة الحادي عشر من ابريل، اغارت التشيكا على 26 مركزا اناركيا. اكبر تلك المراكز، بيت الاناركية في شارع مالايا ديميتروفكا (مقر الغرفة التجارية سابقا) حيث كان مسرحا لاشرس المعارك. قتل في المعركة عشرات من الاناركيين ورجال التشيكا وقبض على المئات اثناء الاهوال التي دامت طوال الليل . تكررت هذه المعركة التي لا مثيل لها في عدة مدن روسية اخرى.
القمع الرسمي للاناركيين لم يمر دون مضاعفات داخل صفوف الحزب الشيوعي نفسه . لوقت بعد صلح برست ليتوفسك، مجموعة داخل المستوى القيادي الاعلى للبلاشفة وبالاشتراك مع بوخارين تدبروا امر صنع مؤامرة انقلابية ضد لينين، من اجل ايقاف الانزلاق السريع للثورة نحو اليمين. ولكن سرعان ما ارتد هؤلاء المنشقون الى موقف الطاعة والتأييد غير النقدي للنظام .
اوكرانيا في ١٩١٨
في الوقت الذي تبددت فيه الثورة نفسها توا في روسيا، لم تكن الثورة في اوكرانيا قد بدأت بعد. كانت اوكرانيا بشكل غالب منطقة فلاحية: في ١٩١٨ فقط ١% من السكان كان من الممكن تصنيفهم عمال صناعيين وتركزوا في قليل من المراكز في شرق وجنوب البلاد. استجاب الفلاحون في اوكرانيا ببطء للاطاحة بسلطة القيصر والفراغ السياسي الناجم عن ذلك. ولكن الثورة اكتسبت تدريجيا حيوية وقوة دفع، حتى اصبحت حركة شاملة بمقاييس يقل نظيرها في تاريخ الهبات الشعبية .
بعد ثورة فبراير 1917، تولت الحكم في كييف حكومة قومية ضعيفة، الرادا المركزية . هذه الحكومة فشلت في الحصول على اعتراف بشرعيتها سواء من الحكومة المؤقتة في بتروجراد او النظام البلشفي الذي خلفها. في اوائل عام 1918 قام الجيش البلشفي تحت قيادة الجنرال انطونوف بغزو اوكرانيا. لم تستطع الرادا المركزية حشد التأييد الشعبي لصد القوات الغازية، التي تكونت تقريبا من جنود كلهم غير اوكرانيين. بعد ان احتل الغزاة كييف في اوائل فبراير، وقعت الرادا المركزية معاهدة سلام مع قوى المحور وسعت الى الحصول على عون عسكري في مواجهة البلاشفة. عندئذ دخلت القوات الالمانية والنمساوية اوكرانيا، وطهرتها من القوات الروسية وجماعات الانصار الاخرى على اختلاف توجهاتها بنهاية ابريل. قوات المحور، فور احتلالهم اوكرانيا، شرعت في نهب البلاد من كل مؤنها الغذائية والمواد الخام الاخرى التي يستطيعون الوصول اليها. قوات الاحتلال هذه، وقد اكتشفت ان الرادا المركزية هي غصة في الحلق اكثر منها عونا في هذا المشروع، دبرت انقلابا بواسطة بافل سكوروبادسكي احد ملاك الاراضي الارستقراطيين في 29 ابريل. اعلن سكوروبادسكي نفسه "هيتمان" لكل اوكرانيا. جسد استيلاء الهيتمانات على السلطة عودة الى الرجعية الاقطاعية التامة بازياءها الفضفاضة الفخمة واحتفالاتها التاريخية الدينية. اضطرت العناصر الثورية في الريف الى العمل تحت الارض او في المنفى.
ماخنو
كان نستور ماخنو في السابعة والعشرين من العمر عندما زار العاصمة الروسية في 1918. امضى ماخنو ثلث حياته خلف القضبان، ومنهم سبعة سنوات في سجن بوتيركي بموسكو. ماخنو، وقد قبض عليه عام 1908 بسبب نشاطاته الاناركية في منطقة قريته التي ولد فيها جويلاي-بولاي، صدر ضده حكم بالاشغال الشاقة مدى الحياة . عاد ماخنو، وقد حررته ثورة فبراير، الى قريته. كان ماخنو هو الباقي الوحيد من المجموعة الثورية التي سحقها القيصر منذ عقد مضى . القى ماخنو بنفسه فورا في تنظيم النقابات، والكميونات، والسوفيتات – وكان من النادر ان تجد امتداد لسلطة الرادا المركزية في المناطق الاوكرانية التي نشط فيها ماخنو؛ وقد شرعت جماعات الفلاحين المحلية في نزع ملكية اراضي النبلاء بمبادراتهم الخاصة. عندما قام البلاشفة بغزو اوكرانيا للمرة الاولى في يناير 1918، ساعدهم ماخنو وجماعته من الانصار الاناركيين بطردهم لقوات الرادا المركزية الضعيفة من الضفة اليسرى لنهر الاكريلن (شرق نهر الدنيبر). بعدها بثلاثة اشهر، عندما اضطر البلاشفة للتراجع والخروج من الاطراف الشرقية لاوكرنيا نتيجة ضغط قوات التحالف النمساوي الالماني وقوات الرادا المركزية، تراجع معهم انصار ماخنو والعصابات الاناركية الاخرى. بنهاية ابريل عقد مؤتمر للاناركيين الاوكرانيين في البلدة الساحلية تاجانروج، التي كانت تحت السيطرة البلشفية بشكل مؤقت. قرر المؤتمر سياسات تنظيم حركة سرية في القرى الاوكرانية. فوض المؤتمر ماخنو للقيام برحلة الى موسكو لمدة شهرين للاتصال بالمجموعات الاناركية الاخرى ولتحديد اتجاهات البلاشفة نحو الانشطة الاناركية في اوكرانيا . شق ماخنو طريقه ببطء عبر مراعي روسيا السوفيتية الفتية، وقد فلت من الهلاك باعجوبة عديد من المرات. عقد ماخنو، وقد وصل الى موسكو مع بداية يونيو، لقاءات مع اناركيين قياديين اضافة الى ممثلين لفصائل سياسية اخرى. كان اليسار المعادي للبلاشفة يمثل وجودا هشا في الحياة السياسية هناك، لا تزال السلطات تتحمله، ولكنه محروم من حرية الحركة. ماخنو، وقد جاء من منطقة لا يزال النشاط الثوري فيها صاعدا وإن لم يسقط النظام الاجتماعي القديم فيها بعد، نفد صبره من الركود والانهزامية التي صادفها في موسكو. في مذكراته كتب ماخنو يسب "الثورة الورقية" للمثقفين الروس في مقابل الحركة الاناركية الناهضة التي كان يتوقع صعودها في اوكرانيا .
لينين وسفردلوف
كان غرض ماخنو الظاهري من زيارة الكرملين هو تقديم طلب للحصول على بطاقة لغرفة خالية. ولكن من المؤكد انه كان يأمل في التعرف السليم من القادة البلاشفة على اتجاهاتهم نحو الثورة الفلاحية في اوكرانيا. نجح ماخنو في ذلك نجاحا باهرا. في يونيو 1918 كانت الحكومة البلشفية لا تزال تتمتع بمرونة كافية ولا تتمسك بالرسميات لدرجة ان "فلاح نصف متعلم" (كما كان ماخنو يصف نفسه) يمكنه التجول عبر اروقة السلطة ويتقابل وجها لوجه مع اشد زعمائها سطوة. بعد لقاء عابر مع بوخارين، تكلم ماخنو بعد ذلك مع سكرتير سفردلوف، ثم مع سفردلوف نفسه، الذي قدمه فيما بعد الى لينين. كان القادة البلاشفة بشكل عام من الشباب، ولم يكن عمرهم اكبر كثيرا من سن ماخنو، رغم تاريخهم الطويل في تجارب الحركة الثورية. كان عمر بوخارين 30، وسفردلوف 33 حين قابلهما ماخنو. كان عمر لينين وقتها 48 سنة، وكان مساعدوه يشيروا اليه منذ زمن طويل باسم "الرجل العجوز". عند لحظة معينة في 1918 صرح لينين بملاحظة الى تروتسكي، "هل لو قتلنا على ايدي الجنرالات البيض، انت وانا، هل تعتقد ان بوخارين وسفردلوف سوف يستطيعان ادارة الامور؟ " وهذا يشير الى ان ماخنو استطاع مقابلة ثلاث من الاربع قيادات بلشفية الجبابرة (بدا ان تروتسكي كان في موسكو حينذاك ولكنه كان مشغولا تماما في تنظيم الجيش الاحمر).
قليلا ما يتذكر الناس ياكوف سفردلوف هذه الايام بسبب موته المبكر في مارس 1919، ضحية لوباء الانفلونزا الذي اجتاح العالم. ولكن في 1918، بوصفه رئيسا للجنة المركزية التنفيذية لسوفيتات عموم روسيا فقد كان سفردلوف من الناحية الفنية رئيسا للدولة السوفيتية. وما هو اكثر مغزى من الناحية العملية، كان سفردلوف ايضا السكرتير العام بحكم الامر الواقع للحزب الشيوعي الروسي، وهوالمنصب الذي اصبح اكثر شهرة حين شغله فعليا جوزيف ستالين، خلفا لسفردلوف.
المؤهلات التي حملها سفردلوف لهذه المناصب المرموقة هي السنوات العديدة التي قضاها في خدمة العمل السري البلشفي وخضوعه المطلق للقائد لينين. سفردلوف، على غير منوال زملائه في سدة السلطة العليا بالحزب، لم يمتلك شهرة كمنظر. فعليا، وطبقا لمخطوط سيرة ذاتية كتبه زعيم بلشفي اخر، سفردلوف "لم يمتلك افكار... لم يخرج منه ابدا شيئا اصيلا". ولكن سفردلوف كان مرموقا بالاحرى لمواهبه التنظيمية ومعرفته الموسوعية بالحزب . نتيجة لقدراته البارعة كسكرتير للحزب، كانوا يستدعون سفردلوف دائما لاعطاء احكام سريعة عن شخصية من سيتولى منصبا معينا من اعضاء الحزب. من المفترض انها موهبته في التقاط قدر الناس هي السبب الذي جعله يمنح هذا الوقت الطويل لمحرض فلاح غامض ويضعه امام لينين.
المقابلات
حيث ان هذه اللقاءات كتب عنها ماخنو بعد سنوات عديدة من وقوعها، من الضروري ان نتدبر امر دقة روايته. الشاهد ان الزعماء البلاشفة تركوا انطباعا قويا على ماخنو ومن الضروري انه ناقش مقابلاته تلك مع هؤلاء الرجال بدقة شديدة مع رفاقه في موسكو. لذا بينما لا نستطيع ان نأخذ الرواية على انها محضر اجتماع، يبدو من المعقول ان نشير الى انها تمثل صورة قريبة لما حصل فعليا.
ولكن يجب ان نتذكر ان ماخنو في كتابته لمذكراته، وهو مجهود بذله بعناد في ظل ظروف شديدة الصعوبة، لم يكن ماخنو مهتما اوليا بتلبية مطالب المؤرخين المحترفين. بل الاحرى انه كان يكتب الى الفلاحين والعمال الاوكرانيين الذين حاول ان يحمل راية طموحاتهم وآمالهم، شارحا تفسيرا للثورة الضائعة. وعلى اتصال بذلك، صدق اصطدامات ماخنو مع البلاشفة على السيادة الاوكرانية هي امر مفتوح للتساؤل. انه يصور سفردلوف ولينين بوصفهم شوفينيين روس عظام ويصور نفسه كمؤيد لشكل ما من الاستقلال الذاتي الاوكراني . هناك قليل من الشك في ان سفردلوف ولينين كانا يعارضان الاستقلال الذاتي الاوكراني في 1918، ولكن بالنسبة لماخنو في ذلك الوقت "الاوكرانية" كانت شيئا ما سياسيا اكثر منه مخططا قوميا، يحتكره لانفسهم اعداءه من انصار الرادا المركزية. لذا تشديد منتقديه على هويته القومية ربما كان اسقاطا جاء في مرحلة تالية. اراء ماخنو في المسألة القومية تعرضت بشكل جلي لبعض التطورات في اثناء منفاه، رغم ان ايمانه بمناهضة فكرة الدولة يبرئه من كونه قوميا.
رواية ماخنو: اللقاءات الاولى
وصلت الى بوابات الكرملين عازما على رؤية لينين، واذا كان ممكنا، سفردلوف، وان اجري محادثات معهما. كان هناك جنديا يجلس خلف باب صغير. سلمته تصريحا باسمي صادر عن سوفيت موسكو. بعد ان قرأه بعناية، اصدر لي اذنا بالمرور، وارفقه بالتصريح، ومررت عبر الباب الى داخل الكرملين. في الداخل كان احد جنود حملة البنادق اللاتفيين يروح جيئة وذهابا . درت حوله وبدأت الدخول الى الميدان الرئيسي عندما وجدت نفسي وجها لوجه مع حارس اخر. سألته ان يدلني على المبنى الذي من المفترض ان اتوجه اليه. بداية من هذه اللحظة، اصبحت حرا في ان اتجول، وفي ان اقف للفرجة على المدافع والدانات المتنوعة التي يعود زمانها الى ايام بطرس الاكبر، وان اتوقف امام جرس القيصر العظيم والعجائب الاخرى المشهورة بالكرملين، او حرا في ان اذهب مباشرة الى داخل احد القصور.
دلفت يسارا وابتلعتني احد تلك القصور (نسيت اسمه) وقفزت على درجات السلم حتى الطابق الثالث. ثم سرت بخطوات واسعة بامتداد الردهة الطويلة الخالية من الناس حيث كانت اللافتات المعلقة على الابواب تقرأ "اللجنة المركزية للحزب" او "المكتبة". وبما انني لا احتاج الى اي منهما، واصلت طريقي دون ان ادري هل يوجد احد خلف هذه الابواب ام لا.
بعض هذه اللوحات لم تحمل اسماءا عليها، لذا رجعت بخطواتي الى الوراء، وتوقفت امام احداها التي تحمل لافتة "اللجنة المركزية للحزب"، وخبطت على الباب. "ادخل"، اجابني احد الاصوات من الداخل. داخل الغرفة كان يجلس ثلاثة من الناس معا غارقين في صمت تام. بدا انني اميز من بينهم زاجورسكي الذي كنت قد رأيته قبلها بيومين او ثلاثة في احد نوادي الحزب البلشفي. سألت هؤلاء الناس اين استطيع ان اجد مكتب السكرتير التنفيذي للجنة المركزية.
احد الثلاثة (بوخارين إن لم اكن مخطئا)، نهض وامسك بحقيبته تحت ابطه. قال الرجل، مخاطبا زملاءه بصوت عال للدرجة التي تجعلني اسمعه، "انا راحل، ولسوف ارشد هذا الرفيق إلى مكتب اللجنة المركزية التنفيذية"، مشيرا لي بطرف ذقنه وقد استدار نحو الباب. شكرت الحاضرين وتركتهم مع الرجل الذي اعتقدت انه بوخارين.
الممر الى القاعة كان صامتا صمت القبور.
سألني مرشدي من اين انت.
اجبته، "من اوكرانيا". عندها سألني عديد من الاسئلة عن الارهاب المستشري في اوكرانيا واراد ان يعرف كيف استطعت ان اصل الى موسكو.
عند وصولنا الى السلم، توقفنا لنستمر في الحديث. اخيرا، اشار الرجل الذي جعلته الصدفة دليلي داخل الكرملين الى الباب الذي على يمين مدخل الممر حيث قال لي انني سوف اجد هناك من يجيبني على ما اريد.
وبعد ان تصافحنا بالايدي، مضى الرجل اسفل الدرج وغادر المبنى.
مضيت الى الباب وخبطت عليه ثم دخلت. سألتني فتاة عما اريد.
اجبتها، "اود ان ارى رئيس اللجنة التنفيذية لمندوبي سوفيتات العمال والفلاحين، والجنود والقوزاق، الرفيق سفردلوف".
دون ان تتفوه بكلمة واحدة، جلست الفتاة امام طاولة، واخذت اوراق التصريح واذن الدخول، ودرستهم بامعان، ثم سجلت بعض بياناتهم، وكتبت تصريح مرور اخر سجلت عليه رقم الحجرة التي من المفترض ان امضي اليها.
في الحجرة التي ارسلتني الفتاة اليها وجدت سكرتير اللجنة المركزية التنفيذية، رجل متين البنيان، تبدو عليه علامات التغذية الجيدة ولكن بملامح مرهقة. طلب مني اوراقي وسلمتها له. وجد الرجل في الاوراق ما اثار اهتمامه وبدأ يسألني بعض الاسئلة:
"اذا انت من جنوب روسيا يا رفيق؟"
"نعم، انا من اوكرانيا".
" كنت توا رئيسا للجنة الدفاع عن الثورة في زمن كيرينسكي؟ "
"نعم"
"اذا انت اشتراكي ثوري؟" (بمعنى، انت عضو في الحزب الاشتراكي الثوري)
"لا!"
"ما هي علاقاتك او ماذا كانت علاقاتك بالحزب الشيوعي في منطقتك؟"
اجبته، "انا اعرف شخصيا العديد من مقاتلي الحزب البلشفي". وعددت له اسماء رئيس اللجنة الثورية في الكسندروفسك، الرفيق ميخائيليفيتش، وبعض المقاتلين الاخرين من ايكاترينوسلاف.
صمت السكرتير للحظة، ثم سألني عن عقلية الفلاحين في "جنوب روسيا"، وعن سلوكهم نحو القوات الالمانية وجنود الرادا المركزية، وعن اتجاهاتهم نحو السلطة السوفيتية الخ.
اعطيته اجابات مختصرة بدا ظاهرا انها نالت رضاه؛ وفعليا كنت آسفا على انني كنت غير قادر على شرحها له بمزيد من الاستفاضة.
في النهاية اتصل الرجل تليفونيا باحد الاشخاص ثم دعاني الى الذهاب الى مكتب رئيس اللجنة المركزية التنفيذية، الرفيق سفردلوف.
مقابلتي مع سفردلوف
في طريقي الى هناك سرحت بخاطري في الروايات التي تنشرها قوى الثورة المضادة، بل وحتى ينشرها اصدقائي انفسهم الذين كانوا اعداءا لسياسات لينين وسفردلوف وتروتسكي، وهي الروايات التي تقول حرفيا ان من المستحيل ان تستطيع الوصول الى هذه الالهة الارضية. فمن المفترض انهم محاطون بكتائب من الحراس الشخصيين، لن يسمح سوى رئيس الحرس هذا بلقائهم الا لمن يوافق هو شخصيا عليهم.
الان، وقد اصطحبني سكرتير اللجنة التنفيذية المركزية، ادركت سخافة هذه الروايات.
فتح سفردلوف لنا الباب بنفسه وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة سرور، تشيع منها روح الالفة، واخذني من يدي، ليجلسني على كرسي بمساند. رجع سكرتير اللجنة التنفيذية المركزية الى مكتبه. بدت اثار النعمة على الرفيق سفردلوف اكثر من سكرتيره. وبدا سفردلوف ايضا اكثر اهتماما بما نقل اليه عما يحدث في اوكرانيا خلال الشهرين او الثلاثة الماضيين. دخل سفردلوف في الموضوع مباشرة قائلا لي:
"وهكذا، قد اتيت يا رفيق من جنوب بلادنا المعذب. اي عمل كنت تضطلع به هناك؟"
"العمل الذي تنخرط فيه الجماهير العظيمة من العمال الثوريين في اوكرانيا. هؤلاء العمال، وقد شاركوا بدورهم في الثورة، مستمرون في الكفاح من اجل تحررهم الشامل. مكاني بين صفوفهم، اذا ما كان لي ان اقول هذا، هو ان اتقدم الصفوف نحو هذه الغاية. اليوم، بسبب انهيار الجبهة الثورية الاوكرانية، وجدت نفسي بشكل مؤقت اهيم على وجهي في موسكو".
صاح سفردلوف، مقاطعا لي، "ماذا تقول يا رفيق؟ فلاحو الجنوب معظمهم من الكولاك او من انصار الرادا المركزية".
انفجرت في الضحك ثم وصفت له باختصار ولكن بشكل دقيق ومحكم حركة الفلاحين التي نظمها الاناركيون في منطقة جولاي-بولايي ضد قوات الاحتلال النمساوي الالماني وجنود الرادا المركزية.
ورغم عدم الراحة الذي شعر به سفردلوف بشكل واضح استمر في الحديث:
"اذا، لماذا لم يدعم هؤلاء الفلاحون وحدات حرسنا الاحمر؟ طبقا لمعلوماتنا فلاحو الجنوب تسممهم افكار الشوفينية الاوكرانية المتطرفة وهم في كل مكان رحبوا بالقوات الالمانية وقوات الرادا المركزية في حماسة بوصفهم محررين لهم".
بدأت مستفزا افند معلومات سفردلوف عن حملة اوكرانيا. اعترفت له انني بنفسي كنت منظما ورئيسا لعديد من كتائب الفلاحين المتطوعين التي قادت كفاحا ثوريا ضد الالمان والرادا المركزية. اكدت له ان الفلاحين يستطيعون تجنيد وحشد جيشا قويا من بين صفوفهم لمقاتلة هؤلاء الاعداء ولكنهم لم يروا بوضوح الغرض من وراء هذه الحرب الثورية. وحدات الحرس الاحمر، وهي تحارب من قطارتها المدرعة، تحافظ على بقاءها قريبة من خطوط السكك الحديدية. انهم يرتدون للخلف عند اول هجوم معاكس دون ان يقلقوا انفسهم حتى بالتقاط جنودهم المتخلفين عنهم، منسحبين عشرات الاميال بغض النظر سواء أكان العدو يتقدم خلفهم ام لا. وشكوت من ان هذه الوحدات لا تشيع الثقة في الفلاحين الذين يقعون تحت رحمة عشماوي الثورة، حيث انهم بلا سلاح ومعزولين داخل قراهم. في الواقع، قطارات الحرس الاحمر المدرعة لم تكلف نفسها ابدا عبء ارسال فصائل من الحرس الاحمر للقرى القريبة من الخط الحديدي. الحرس الاحمر حتى لم يعط السلاح للفلاحين ولم يشجعهم على التمرد ضد اعداء الثورة، ولا على الانضمام للكفاح بانفسهم.
انصت لي سفردلوف بانتباه، صائحا من وقت لاخر، "هل هذا ممكن؟" اشرت الى ان العديد من وحدات الحرس الاحمر تنتمي لجماعات بوجدانوف، وسفيرسكاي، وسابلين واخرين. وقد اصبحت اكثر استقرار ورصانة، اشرت الى ان الحرس الاحمر لا يمكنه اشاعة الثقة في جموع الفلاحين طالما ركز تحركاته على الدفاع عن طريق السكك الحديدية مستخدما القطارات المدرعة التي تسمح لهم بشن هجمات سريعا ولكنهم غالبا ما يتراجعون. ومع ذلك هذه الجموع ما زالت ترى في الثورة وسيلة للتخلص من ظالميهم – ليس فقط كبار ملاك الارض واغنياء الكولاك، ولكن ايضا التخلص من خدمهم، موظفي الدولة بسلطتهم الادارية والسياسية. وهكذا الفلاحون مستعدون للدفاع وصد غزوات اليونكر البروسيين ، اضافة الى صد قوات الهيتمان (زعماء العشائر الاوكرانيين).
قال سفردلوف، "نعم، اعتقد انك على حق فيما يتعلق بالحرس الاحمر... ولكننا قد اعدنا تنظيمهم الان داخل الجيش الاحمر الذي يبني قواته حاليا . لو ان الفلاحين في الجنوب انغرست فيهم الروح الثورية كما جاء في وصفك، فلسوف تكون هناك فرصة طيبة لكنس الالمان من هناك ولسوف يعض الهيتمان التراب في وقت قصير. عندئذ سوف تنتصر سلطة السوفيت في اوكرانيا ايضا".
"سوف يعتمد ذلك على تنظيم حركة سرية في اوكرانيا. شخصيا انا اعتبر هذه الحركة اكثر ضرورة من اي وقت سبق. بشرط اذا اتخذت هذه الحركة شكلا نضاليا مقاتلا، فإنها سوف تحث جماهير الفلاحين على اعلان التمرد في المدن والقرى ضد الالمان والهيتمان. دون انتفاضة ذات طابع ثوري بشكل جوهري في داخل اوكرانيا، لن يضطر الالمان النمساويون مجبرين على اخلاء البلاد ولن يكون ممكنا تهديد الهيتمان ومؤيديه او اجبارهم على الفرار مع حماتهم. لا تنس انه بسبب معاهدة بريست-ليتوفسك والعوامل السياسية المتعلقة بالقوى الاجنبية التي يجب ان تأخذها ثورتنا في الحسبان، اي هجوم يقوم به الجيش الاحمر في هذا الوقت هو امر لا يمكن تصوره" .
في الوقت الذي كنت اطرح فيه وجهة نظري، كان الرفيق سفردلوف يدون ملاحظاته.
قال سفردلوف، "في هذه الحالة انا اشاركك وجهة النظر بالكامل، ولكن ماذا تكون؟ شيوعي ام اشتراكي ثوري يساري؟ حيث انك اوكراني كما استطيع ان اقول من اللغة التي تستخدمها، ولكن الى اي من الحزبين تنتمي، هذا ما لا استطيع تحديده".
هذا السؤال، بينما لم يمثل مفاجأة حين وجهه لي سفردلوف، (سكرتير اللجنة المركزية التنفيذية كان قد سألني نفس السؤال توا) وضعني في موقف محير. ماذا يتوجب على قوله؟ هل اقول لسفردلوف بصراحة انني شيوعي اناركي، رفيقا وصديقا لهؤلاء الذين سحقهم حزبه ودولته منذ شهرين سابقين في موسكو ومدن اخرى، ام اخفي نفسي تحت لافتة اخرى؟
احسست بالارتباك وشعر سفردلوف بذلك. لم ارد كشف تصوراتي عن الثورة الاجتماعية وعن اتجاهاتي السياسية في منتصف المقابلة معه. اخفاء هويتي كان امرا ممجوجا بنفس القدر. لذا، وبعد التفكير لعدة ثوان، قلت لسفردلوف: "لماذا انت مهتم لهذه الدرجة بانتماءاتي السياسية؟ اوراقي تظهر لك من اكون، ومن اين اتيت، والدور الذي لعبته في منطقة بعينها، وتنظيمي لعمال المدن والقرى اضافة الى تنظيمي لجماعات الانصار وكتائب المتطوعين للقتال ضد الثورة المضادة التي تجتاح اوكرانيا. اليس هذا كافيا بالنسبة لك؟"
اعتذر الرفيق سفردلوف وسألني الا اشك في شرفه كثوري او اشك في انه يفقد الثقة في. كان اعتذاره صادقا للدرجة التي جعلتني اشعر بالذنب، ودون اي تردد، اعلنته انني شيوعي اناركي من نوع باكونين-كروبوتكين .
تسائل سفردلوف، بابتسامة صديقة، "اي نوع من الشيوعيين الاناركيين انت يا رفيق، حيث انك تقف مدافعا عن تنظيم الجماهير العاملة وتوجيههم نحو الكفاح ضد السلطة الرأسمالية؟"
ولدهشة رئيس اللجنة المركزية التنفيذية، اجبته:
"الاناركية هي ايديولوجية واقعية جدا حتى انها لا تبني فهم خاص للعالم المعاصر والاحداث الواقعية. الدور الذي قام به الذين يمارسون الشيوعية الاناركية في هذه الاحداث مبني على فهم واضح للهدف المفترض تحقيقه والوسائل التي من المفترض ان تستخدم للوصول اليه.."
اخبرني سفردلوف، "ليس لدي اعتراض على ذلك، ولكنك لا تشبه على الاقل اولئك الاناركيين الموسكوفيين الذين اقاموا بشارع مالايا ديميتروفكا"، واراد سفردلوف التوسع في هذا الموضوع، ولكنني قاطعته قائلا:
"سحق الاناركيين في مالايا ديمتروفكا بواسطة حزبك هو مأساة يجب الا تتكرر في المستقبل لمصلحة الثورة..."
تمتم سفردلوف ببعض الكلمات المدغمة في لحيته، وقد نهض من كرسيه، اتى الي، ووضع راحتيه على كتفي وقال:
"ارى انك شخص مطلع جدا على ما يحدث منذ انسحابنا من اوكرانيا وخصوصا المشاعر الحقيقية لدى الفلاحين. ايليتش، رفيقنا لينين، من المؤكد انه سوف يكون مسرورا بالاستماع اليك. هل تود ان احادثه على الهاتف؟"
اجبت انه لا يوجد الكثير مما اود اضافته لفائدة الرفيق لينين، ولكن سفردلوف كان قد التقط الهاتف توا، ناصحا لينين بأن لديه الان بين يديه رفيقا يملك معلومات هامة جدا عن الفلاحين في جنوب روسيا وعن اتجاهاتهم نحو قوى الاحتلال الالماني. ودون تطويل سأل سفردلوف لينين متى يمكنه رؤيتي.
بعد لحظة وضع سفردلوف سماعة التليفون، وكتب تصريح مرور لي يسمح بعودتي في اليوم التالي. قال لي وهو يسلمني اياه:
"غدا، في الواحدة بعد الظهر تماما، تعالى الى هنا مباشرة. سوف نمضي معا الى مكتب الرفيق لينين... هل استطيع الاعتماد عليك؟"
اجبته، "اعتمد علي. لكن هل استطيع ان احصل على وثيقة من سكرتارية اللجنة المركزية تصرح لسوفيت موسكو ان يعطيني سكنا مؤقتا ومجانيا؟ والا سوف اكون مرغما على قضاء الليل راقدا على دكة في حديقة عامة".
"سوف نرتب كل شيء غدا"، اجابني سفردلوف. وبعد سلامي عليه، اتبعت طريقي للخروج من قصر القيصر الى بوابات الكرملين، دائرا مرة اخرى حول الحرس اللاتفي، وصفوف المدافع والدانات العتيقة، ملقيا بنظرة سريعة على مدفع القيصر العظيم. حتى الغد....
لم ارجع الى الشقة التي تخص قسم الفلاحين بكونجرس السوفيت، الذي كان يترأسه بورتسيف، وهو زميل الزنزانة السابق للرفيق اركينوف . وفر بورتسيف ملجأ للعديد من الرفاق منهم اركينوف الذين تحولوا تدريجيا الى عبء ثقيل عليه. بدلا من ذلك ذهبت لأرى رئيس المركز النقابي، الذي خدم ايضا في السجن مع اركينوف. وعندما لم اجده مرحبا بضيافتي لدرجة كبيرة ذهبت لاعثر على احد المشهورين وسط الرفاق بانه "الاحمق"، الاناركي ماسلوف.
اعلنت للرفيق ماسلوف، وقد عرفته من خلال خدمتنا في الاشغال الشاقة معا، انني سوف اقيم معه، حيث انني لا اجد مكانا اقضي فيه الليل.
لم يعارض الرفيق ماسلوف ومكثت معه. فعليا اظهر لي ماسلوف ضيافة خاصة رغم انتقاداتي له على سلوكه الانفرادي العجيب الذي كان يمنعه من انشاء علاقات اخوية برفاقه السابقين في منظمات موسكو للشيوعيين الاناركيين.
مقابلتي مع لينين
في اليوم التالي، في الواحدة ظهرا، اظهرت نفسي مرة اخرى في الكرملين لاجد الرفيق سفردلوف. قادني الرفيق مباشرة الى لينين. رحب الاخير بي بطريقة ودية. امسكني من ذراع وربت على كتفي بيده الاخرى، وقادني الى مقعد بمساند. بعد ان طلب من سفردلوف ان يجلس في مقعد اخر، ذهب الى سكرتيرته وطلب منها قائلا، "لو سمحت لا تقاطعوننا حتى الساعة الثانية". ثم جلس مقابلي وبدأ يوجه الاسئلة.
سؤاله الاول كان: "من اي منطقة انت؟" ثم: "كيف يفهم الفلاحون في منطقتك شعار كل السلطة للسوفيت في القرى وماذا كان رد الفعل عند اعداء هذا الشعار – عند الرادا المركزية على وجه الخصوص؟" اخيرا: "هل تمرد الفلاحون في منطقتك ضد الغزاة الالمان النمساويين؟ لو ان الاجابة بنعم، ماذا كان ينقص التمرد الفلاحي حتى يتحول الى انتفاضة عامة بالتنسيق مع عمل وحدات الحرس الاحمر، الذي يدافع عن اراضينا المحتلة بمثل هذه الشجاعة الرائعة؟"
كانت اجاباتي على كل هذه الاسئلة اجابات مقتضبة. لينين، بألمعيته الفريدة الخاصة، سعى ليضع اسئلته بطريقة تمكنني من اجابتها نقطة بنقطة. مثلا، سؤال: "كيف فهم الفلاحون في منطقتك شعار كل السلطة لسوفيت القرى؟" كرره لينين ثلاث مرات. وقد ادهشته اجابتي:
"فهم الفلاحون هذا الشعار بطريقتهم الخاصة. طبقا لتفسيرهم له، كل السلطة ، في كل جوانب الحياة، يجب ان تعرف بوعي وارادة الشعب العامل. يفهم الفلاحون ان سوفيتات العمال والفلاحين في قرى البلاد والمقاطعات ليست اكثر ولا اقل من وسائل في ايدي المنظمات الثورية والادارة الذاتية الاقتصادية للشعب العامل في الكفاح ضد البرجوازية وخدمها، الاشتراكيين اليمينيين وحكومتهم الائتلافية ".
سأل لينين، "هل تعتقد ان هذه الطريقة في تفسير شعارنا هي طريقة صحيحة؟"
اجبته، "نعم".
"حسنا، اذا، الفلاحون في منطقتك اصابتهم عدوى الاناركية!"
"وهل هذا امر سيء؟"
اجابني لينين، "ليس هذا ما اعنيه. على العكس، نحن مسرورون لان ذلك سوف يعني انتصار الشيوعية على الرأسمالية"، واضاف، "ولكني اشك اذا ما كانت هذه الظاهرة تلقائية؛ انها نتيجة دعاية اناركية ولن تدوم. بل انني حتى لأميل الى الاعتقاد بأن هذه الحماسة الثورية، التي سحقتها الثورة المضادة المنتصرة قبل ان تمتلك الفرصة لخلق منظمة واحدة، قد اختفت توا".
اشرت الى لينين ان القائد السياسي يجب الا يكون متشائما او متشككا.
قاطعنا سفردلوف، "لذلك طبقا لما تقوله، يجب ان نشجع مثل هذه الميول الاناركية في حياة جماهير الفلاحين؟"
اجبت، "اوه، فحزبك لن يشجعهم".
امسك لينين بالفرصة.
"ولماذا يتوجب علينا ان نشجعهم؟ حتى نقسم القوى الثورية للبروليتاريا، ونمهد الطريق للثورة المضادة وننتهي بتدمير انفسنا وتدمير البروليتاريا؟"
لم استطع كظم غضبي وانزعجت تماما. اشرت الى لينين ان الاناركية والاناركيين لا يوحدهم شيء مشترك مع الثورة المضادة ولا يرشدون البروليتاريا في هذا الاتجاه.
سألني لينين، "وهل هذا ما قلته؟" واضاف، "انا احاول القول ان الاناركيين، وينقصهم المنظمات الجماهيرية، ليسوا في وضع يستطيعون فيه تنظيم البروليتاريا والفلاحين الفقراء. وبالنتيجة، هم ليسوا في وضع يستطيعون فيه استنهاضهم للدفاع، باوسع معنى للكلمة، عن ذلك الذي قمنا بقهره، وهو الامر العزيز جدا لدينا".
تحول اللقاء الى الاسئلة الاخرى التي وضعها لينين. اجبرني لينين ان اجيب على احد هذه الاسئلة، وهو سؤال "وحدات الحرس الاحمر والشجاعة الثورية التي دافع بها عن اراضينا المشتركة التي خضعت للغزو"، طلب مني ان اجيب عليه بشكل كامل قدر الامكان. اثار السؤال قلقي بشكل واضح او ان السؤال ذكرني بما قد انجزته تشكيلات الحرس الاحمر مؤخرا في اوكرانيا، من المفترض انها قد حققت الاهداف التي وضعها لها لينين وحزبه، الذين باسمهم ارسلت هذه الوحدات من بتروجراد الى المدن الاخرى الكبرى في اطراف روسيا. اتذكر عاطفة لينين، عاطفة رجل يكافح بإيمان ضد نظام اجتماعي كرهه من اعماقه وكم تمنى تدميره، عندما قلت له:
"حيث انني شاركت في نزع سلاح العديد من القوزاق المنسحبين من الجبهة الالمانية بنهاية ديسمبر 1917 وبدايات 1918، فأنا على علم جيد "بالشجاعة الثورية" لوحدات الحرس الاحمر وبشجاعة قادته خصوصا . لكن ما يبدو لي، يا رفيق لينين، انه كونك تتلقى معلوماتك من ثاني وثالث مصدر، فهذا ما يجعلك تبالغ في مدح ادائهم".
"كيف ذلك؟ هل تختلف في الحكم عليهم؟"
"اظهر الحرس الاحمر روحا ثورية وشجاعة، لكن ليس بالطريقة التي تصفها. كفاح الحرس الاحمر ضد الهايداماك التابعين للرادا المركزية ، وخصوصا، كفاحهم ضد القوات الالمانية، به لحظات معروفة تكشف فيها ان الروح الثورية والشجاعة، اضافة الى تحركات الحرس الاحمر وقادتهم، كانت في غاية الضعف. بالتأكيد في معظم الاحيان كل ذلك يمكن رده الى حقيقة ان قطاعات الحرس الاحمر تشكلت بسرعة وعملت ضد عدو بطريقة مختلفة تماما عن طريقة حرب الانصار او الوحدات النظامية.
"يجب ان تعرف ان الحرس الاحمر، بغض النظر عن اعدادهم، ينفذون هجومهم ضد الاعداء بالتحرك على طول خطوط السكك الحديدية. ولكن المناطق التي تقع على بعد عشرة الى خمسة عشر ميلا من خط السكة الحديد لا يحتلونها؛ المدافعون عن الثورة او الثورة المضادة يستطيعون المجيئ والذهاب في هذه المنطقة بحرية. لهذا السبب، تنجح الهجمات المفاجئة تقريبا لا محالة. فقط بالقرب من المدن والبلدات على طريق السكك الحديدية فتح الحرس الاحمر جبهة يشن منها هجماته. ولكن مناطق المؤخرة والضواحي القريبة من تقاطع السكك الحديدية ظلت كلها بلا مدافعين. انهار الاندفاع الهجومي للثورة في وجه الضربات المضادة. وما ان تنتهي وحدات الحرس الاحمر من توزيع تواجدها في منطقة معينة حتى تقوم القوى المضادة للثورة بمهاجمتها واجبارهم على الانسحاب في قطاراتهم المدرعة. في الواقع لم ير الناس حتى الحرس الاحمر ولذلك لم يؤيدونهم".
سأل لينين، "وماذا يفعل المحرضون الثوريون في القرى؟ هل لا يقومون بتجهيز البروليتاريا الزراعية حتى يزودوا الحرس الثوري الذي يمر بالقرب من اماكنهم بدماء جديدة من القوات، او حتى يشكلوا فيالق جديدة من الحرس الاحمر لاتخاذ مواقع هجومية ضد الثورة المضادة؟"
"لا تذهب بعيدا. عدد المحرضين الثوريين قليل للغاية في القرى، ولا يستطيعون فعل الكثير. ولكن في كل يوم مئات من المحرضين والمؤيدون السريون للثورة المضادة يظهرون في القرى. في بلدي والمناطق المحلية المحيطة، من المبالغة ان تتوقع الكثير من المحرضين الثورين في خلق قوات جديدة وتنظيمهم ضد الثورة المضادة. هذه الاوقات تتطلب اعمال حاسمة من كل الثوريين في كل اوجه الحياة واوجه كفاح العمال. الا تضع هذا في اعتبارك، خصوصا في اوكرانيا، فذلك يسمح لقوى الثورة المضادة التي تساند الهيتمان ان تتطور بقوتها وتزيد من تماسك سلطتها".
ظل سفردلوف يركز نظراته احيانا علي، واحيانا اخرى على لينين. بالنسبة للاخير، اطبق لينين اصابع يديه، ومال برأسه، وشرد في افكاره. ثم، مد قامته وقال: "كل ما قلته لي توا هو امر مؤسف". واضاف، مستديرا الى سفردلوف، "باعادة تنظيم الحرس الاحمر داخل الجيش الاحمر نحن نسير على الطريق الصحيح الى انتصار البروليتاريا على البرجوازية".
اجاب سفردلوف بحماسة، "نعم، نعم".
ثم قال لي لينين، "أي اعمال تنوي القيام بها في موسكو؟"
اجبت انني لن امكث طويلا. تمشيا مع القرار الذي اتخذه مؤتمر جماعات الانصار المقام في تاجانروج، سوف اعود الى اوكرانيا في اوائل يوليو.
سألني لينين، "هل سوف تعود سرا؟"
أجبته، "نعم".
علق لينين تعليقه الخاص، مخاطبا سفردلوف، "يمتلئ الاناركيون دائما بانكار الذات، انهم جاهزون للتضحية والفداء. ولكنهم متعصبون تعصبا اعمى، انهم يتجاهلون الحاضر ويفكرون فقط في المستقبل البعيد". وبالاشارة الى ان ذلك ليس موجها لي، اضاف لينين، "انت، يا رفيق، كما اعتقد، تمتلك مسلكا واقعيا نحو مشاكل زماننا. لو ان فقط ثلث الاناركيين في روسيا على شاكلتك، فلسوف نكون نحن الشيوعيون مستعدون للتعاون معهم في ظل شروط معينة بهدف التنظيم الحر للمنتجين".
في هذه اللحظة شعرت شعورا عميقا من الاحترام للينين ينهض داخلي، رغم اقتناعي الحالي انه مسئول عن افناء التنظيم الاناركي في موسكو، الذي كان علامة على تدمير المنظمات المماثلة في العديد من المدن الاخرى. وفي ضميري كنت خجلا من نفسي. وانا ابحث عن رد يجب ان اوجهه للينين، قلت له عينا في عين:
"الثورة ومواقعها عزيزة جدا بالنسبة للشيوعيين الاناركيين؛ وفي هذا المقام الشيوعيون الاناركيون مثلهم مثل كل الثوريين الحقيقيين".
صاح لينين فورا، ضاحكا، "اوه، لا تقل لنا ذلك. نحن نعرف الاناركيين كما نعرفك. في الجزء الاعظم ليس لديهم اي فكرة عن الحاضر، او على الاقل هم لا يشغلون انفسهم به الا في القليل جدا. ولكن الحاضر هو امر جدي لدرجة انه عندما لا يفكر الثوريون به او لا يتخذون موقفا باسلوب ايجابي يتعلق به يصبح ذلك مشينا. معظم الاناركيون يفكرون ويكتبون عن المستقبل دون فهم للحاضر. وهذا ما يقسمنا، الشيوعيون وانتم".
مع هذه الكلمات، نهض لينين من كرسيه واخذ يخطو جيئة وذهابا.
"نعم، نعم، الاناركيون اقوياء في مجال الافكار عن المستقبل – في الحاضر، هم لا يستقرون باقدامهم على ارض. مسلكهم يرثى له ولأن تعصبهم الاعمى خالي من المضمون، لا يمتلكون صلات حقيقية بهذا المستقبل الذي يحلمون به".
اكتسى وجه سفردلوف بابتسامة شريرة، والتفت لي، قائلا: "لا تستطيع ان تجادل في ان فلاديمير ايليتش على حق في تعليقاته".
اسرع لينين مضيفا: "هل يقر الاناركيون ابدا بافتقادهم للواقعية في الحياة اليومية الحاضرة؟ لماذا، انهم حتى لا يفكرون فيها".
ردا على ذلك، اخبرت لينين وسفردلوف انني فلاح نصف متعلم ولا استطيع المجادلة باسلوب سليم في الرأي المثقف الخبير الذي ادلى به لينين حول الاناركيين.
"ولكني يجب ان اخبرك، ايها الرفيق لينين، ان تأكيدك على ان الاناركيين لا يفهمون ’الحاضر‘ بشكل واقعي، وانهم لا يمتلكون صلة به وهلمجرا، هو رأي خاطئ بشكل جوهري. الشيوعيون الاناركيون في اوكرانيا (او ’جنوب روسيا‘ بالنسبة لكم ايها البلاشفة الشيوعيون الذين يحاولون تجنب كلمة اوكرانيا)، اقول، الشيوعيون الاناركيون قد اعطوا توا عديد من البراهين على انهم منزرعون بشدة في ’الحاضر‘. نضال الريف الاوكراني الثوري بأكمله ضد الرادا المركزية تم تنفيذه في ظل التوجيه الايديولوجي للشيوعيين الاناركيين وجزئيا ايضا من الاشتراكيين الثوريين (الذين بالطبع يمتلكون اهداف مختلفة كليا عن اهداف الشيوعيين الاناركيين في كفاحهم ضد الرادا المركزية). لم يمتلك بلاشفتكم الا فيما ندر اي وجود في قرانا. واينما تغلغلوا ظل نفوذهم في حدوده الدنيا. تقريبا كل الكوميونات او الجمعيات الفلاحية في اوكرانيا تشكلت بايحاء من الشيوعيين الاناركيين. الكفاح المسلح للشعب العامل ضد الثورة المضادة عموما وضد الغزو الالماني النمساوي خصوصا اضطلعت به الجماهير يدا بيد مع التوجيه الايديولوجي والعضوي للشيوعيين الاناركيين حصريا.
"من المؤكد، انه ليس من مصلحة حزبك ان تعطينا استحقاقا وجدارة في كل ذلك، ولكنها تلك هي الحقائق وانت لا تستطيع دحضها. انت تعرف بدقة تماما، كما اتخيل، القوة الفعلية والطاقة القتالية للقوات الثورية الحرة في اوكرانيا. لم يكن دون سبب انك اثرت امر شجاعتهم التي دافعوا بها بشكل بطولي عن المواقع الثورية المشتركة. من بينهم، على الاقل نصفهم حارب رافعا الراية الاناركية – موكروسوف، وماريا نيكيفوروفا ، وتشدردنياك، وجارين، ولوينيف والعديد من قادة القوات الاخرين الموالين للثورة ممن سيأخذون وقتا طويلا حتى نذكر اسماءهم كلهم – كلهم شيوعيون اناركيون. استطيع الحديث عن المجموعة التي انتمي اليها بنفسي وعن كل جماعات الانصار الاخرى و’كتائب المتطوعين‘ للدفاع عن الثورة التي قمنا بتشكيلها والتي لا تستطيع قيادة الحرس الاحمر الاستغناء عنها.
"كل ذلك يظهر لك كم انت على خطأ، ايها الرفيق لينين، بادعاء اننا، نحن الشيوعيون الاناركيون، لا تقف اقدامنا على ارض، وان مسلكنا نحو ’الحاضر‘ امر يرثى له واننا مغرمون جدا بأن نعيش في احلام حول المستقبل. ما قلته لكم في سياق حوارنا اليوم لا يمكن وضعه محل تساؤل لان ما قلته هو الحق وصحيح. الرواية التي قصصتها عليكم تناقض الاستنتاجات التي عبرتم عنها نحونا. كل شخص يستطيع ان يرى كم نحن "مزروعون" في الحاضر، حيث اننا نعمل ونسعى نحو ايجاد الوسائل التي تجلب المستقبل الذي نرغب به، واننا في الواقع نتعامل جديا مع هذه المشكلة".
في هذه اللحظة تطلعت الى سفردلوف. كان وجهه قد اصطبغ بالاحمرار ولكنه كان ما زال مبتسما. بالنسبة للينين، وقد فرد ذراعيه، قال: "ربما اكون مخطئا".
"نعم، نعم، في هذه الحالة، ايها الرفيق لينين، كنت قاسيا جدا علينا، نحن الشيوعيون الاناركيون، ببساطة، كما اعتقد، لان معلوماتكم فقيرة حول الوضع الحقيقي في اوكرانيا وحول الدور الذي لعبناه هناك".
"ربما لا استطيع المجادلة في ذلك. ولكن على اية حال الخطأ لا يمكن تجنبه، خصوصا في الاوضاع الراهنة"، هذه كانت اجابة لينين.
لينين وقد لاحظ انني اشعر بسخونة ما بسبب ياقة القميص، بذل اقصى ما عنده لتهدئتي بطريقة ابوية، ملتويا بالحوار بشكل حاد تماما الى موضوع اخر. ولكن طبعي السيئ، اذا ما كان لي ان اقول ذلك، لم يسمح لي بان اترك نفسي للدخول في مزيد من النقاش، رغم كل الاحترام الذي بثه لينين في داخلي ناحيته. شعرت بالاهانة. رغم انني عرفت ان امامي رجل حقيقي، الا ان هناك عديد من الموضوعات الاخرى ممكن ان اتناولها معه وهناك الكثير مما استطيع تعلمه منه، ولكن حالتي الذهنية كانت قد تبدلت. لم تعد اجاباتي تفصيلية؛ شيئا ما داخلي اصبح مطعونا ومررت باحساس من اللفظ.
تأثر لينين بشدة من التعامل مع هذا التغيير في موقفي نحو الحوار. سعى لينين جاهدا لصرف غضبي بالحديث عن اشياء اخرى. وسألني فجأة، وقد لاحظ انني استعيد لياقتي السابقة نتيجة فصاحته وبلاغته في الحديث: "اذا انت تنوي العودة الى اوكرانيا سرا؟"
اجبت، "نعم".
"هل استطيع تقديم اي مساعدة؟"
قلت، "بكل سرور".
سأل لينين، ملتفتا الى سفردلوف، "من هو المسئول حاليا عن ارسال عملاءنا داخل الجنوب؟"
رد سفردلوف، "اما الرفيق كاربينكو او الرفيق زاتونسكي. سوف اتيقن من منهما". وبينما يتصل سفردلوف هاتفيا ليكتشف من منهما المسئول عن ارسال عملاء تحت غطاء الى اوكرانيا، حاول لينين اقناعي ان موقف الحزب الشيوعي فيما يتعلق بالاناركيين ليس عدائيا لهذه الدرجة التي يبدو اني اعتقدها.
قال لينين، "لو اننا اضطررنا الى ان نتخذ اجراءات نشيطة قوية لخلع الاناركيين من مبنى معين يحتلونه في مالايا ديميتروفسكا، كانوا يأوون فيه عصابات من هنا او من اماكن اخرى، فالمسئولية لا تقع علينا ولكن على الاناركيين الذين نصبوا انفسهم هناك. يجب ان تفهم اننا صرحنا لهم باحتلال مبنى اخر ليس بعيد عن المبنى الذي احتلوه في شارع مالايا ديميتروفكا وانهم احرار في القيام بعملهم بطريقتهم الخاصة".
سألت لينين، "هل تمتلك اي دليل يبرهن على ان الاناركيين في مالايا ديمتروفسكا كانوا يأوون عصابات؟"
اجاب لينين، "نعم، جمعت المفوضية الاستثنائية دليلا وتحققت منه. والا لما اصدر الحزب اوامر بالاجراءات التي اتخذت".
في الاثناء جلس سفردلوف معنا مرة اخرى واعلن ان الرفيق كاربينكو هو المسئول عن تمرير العملاء السريون، ولكن الرفيق زاتونسكي ايضا خبير بذلك ولديه معلومات جيدة عن هذا الموضوع.
صاح لينين مباشرة: "اذا، يا رفيق، اذهب غدا بعد الظهر او حينما يتفق لك الى الرفيق كاربنكو واطلب منه اي شيء انت تحتاجه لدخول اوكرانيا سرا. سوف يعطيك طريقا تسلكه لعبور الحدود".
سألت، "اي حدود؟"
قال لينين بعصبية، "الا تعلم اخر ما حدث؟ اقيمت حدود بين روسيا واوكرانيا . هناك قوات المانية تحرس هذه الحدود الان".
اجبت، "اذا انت تعتبر اوكرانيا بوصفها ’جنوب روسيا‘".
تمتم لينين، "ان تعتبر هو شيء، يا رفيق، وان ترى الاشياء كما هي فذلك امر اخر".
قبل ان يتاح لي الوقت لارد، اضاف لينين: "اخبر الرفيق كاربنكو انني ارسلتك. اذا لم يصدقك، فليطلبني فقط في التليفون. هذا هو العنوان حيث يمكنك ان تجده".
بعدئذ وقفنا كلنا، وتصافحنا بالايدي، وبعد تبادل الشكر، بطريقة ودية كما كان ظاهرا، غادرت مكتب لينين، ونسيت حتى ان اذكر سفردلوف ان يأمر سكرتيره ان يوقع التأشيرة الضرورية على وثائقي التي سوف تخولني امكانية الحصول على غرفة مجانية من سوفيت موسكو.
وجدت نفسي سريعا عند بوابات الكرملين وفورا مضيت لأرى الرفيق بورتسيف.
خاتمة
بفضل مساعدة لينين، استطاع ماخنو العودة الى اوكرانيا بعد رحلة طويلة وخطيرة. زود البلاشفة ماخنو بجواز سفر كمدرس؛ وحاولوا ايضا تجنيده كواحد من عملائهم في اوكرانيا، ولكنه رفض عرضهم. عند وصول ماخنو الى منشأه الاصلي في جولاي-بولاي، علم انه في غيابه احرقوا بيت امه حتى سوي بالارض وان اخيه الاكبر، غير اللائق للحرب، قتلته القوات الرجعية .
هناك دليل ضئيل على ان مقابلة ماخنو مع سفردلوف ولينين تكتسب اي اهمية تاريخية. استمر البلاشفة في اتباع سياسة غير تنويرية نحو اوكرانيا. نادى البلاشفة، وهم مخطئون في حساب قوتهم بالريف، بهبة جماهيرية في 7 اغسطس 1918، مما جعلها تتسبب في عموم الفوضى . وعندما غزا البلاشفة اوكرانيا للمرة الثانية في نهاية عام 1918، كرروا كل الاخطاء نفسها في تعاملهم مع الفلاحين بنفس النتائج السابقة . وللمفارقة، افكار ماخنو عن شن ’حرب الشعب‘ في الريف حاكاها فعليا الزعماء الماركسيون اللينينيون في العالم الثالث – من اجل غايات مختلفة تماما.
مضى ماخنو في تنظيم الحركة التي حملت اسمه، الماخنوية، والتي ناضلت لمدة ثلاث سنوات لتأسيس مجتمعا اناركيا في جنوب شرق اوكرانيا. ومن وجهة نظر عسكرية صرف، جيش انصار ماخنو قام بنصيب كبير في نتائج الحرب الاهلية: اعطى العديد من المقاتلين الاناركيين ارواحهم في معركة مستميتة مع جيوش الجنرال الابيض ’دينيكن‘ ونجحوا في قطع خطوط امداده عندما كانت قواته تقترب بالضبط من موسكو.
تتبع لينين وتروتسكي اخبار نشاطات ماخنو باهتمام بالغ . عند لحظة معينة فكر لينين وتروتسكي حتى في فصل جزء من اوكرانيا وتركه للاناركيين لتنفيذ تجربتهم الاجتماعية . ولكن في النهاية اغرقوا الماخنوية في بحار دماء الاف الفلاحين الذين تم اعدامهم .
عندما زارت ايما جولدمان والكسندر بيركمان لينين في 1920 لطلب العفو في قضية الاناركيين في السجون الروسية، صاح لينين مغضبا: "اناركيون؟ كلام فارغ! لدينا عصابات في السجون، وماخنويون، ولكن لا يوجد اناركيون ايديولوجيون" .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)