مبادئ اللاسلطوية
سامح سعید عبود
اللاسلطوية هى الترجمة العربية الأفضل للتعبير عن تيار سياسى واجتماعى و فلسفى ، تعددت أسماءه و رموزه الفكرية ، و تجسيداته سواء فى حركات ثورية أو ثورات عبر التاريخ ، وتتنوع بداخله المدارس برغم ما يجمعه من إطار عام .عرف فى العربية بالفوضوية التى هى ترجمة غير دقيقة لكلمة ((Anarchism)) والتى تعنى فى اليونانية (لا حكم ) فى حين أن الفوضوية اشتقاق نسب عربى من فوضى ، وترجمتها فى الإنجليزية ((choas،)) ومن ثم فهى ترجمة فضلا عن عدم دقتها فهى خبيثة حيث تهدف لتنفير من يسمعها ، وقد عرف هذا التيار أيضا باللاسلطوى ، والتحررى ولاحقا أسماء أخرى أكثر تحديدا أهمها الشيوعية التحررية .
ويرجع هذا التيار لجذور فكرية قديمة إلى ما قبل العصور الحديثة ، تعلى من قيمة الحرية الإنسانية ، وترفض السلطة القمعية وتنقدها ، وتعتبر الدولة كمؤسسة فى حد ذاتها مصدر كل شر ، ومصدر القهر الواقع على الإنسان ، وسبب استغلاله وإفساده وتشويهه ، وتبشر بعالم يخلو من هذا القهر ، وذاك الاستغلال ، وبإمكانية أن يحيا البشر أحرارا دون هذه الدولة المتعالية عليهم و المتسلطة عليهم أيا ما كان نظامها. ويرى البعض أن هذا التيار هو الامتداد الأكثر جذرية لفكر عصر التنوير الذى سبق الثورة الفرنسية ، بشعـاراتها الثـلاث ( الحرية ، و الإخاء ، والمساواة ) كما يرى البعض أن هناك جذورا لاسلطوية فى كل الثقافات عبر التاريخ.
وتنقسم جذور هذا التيار فى العصر الحديث لثلاث منابع بدأت فى القرنين الثامن و التاسع عشر ، اللاسلطوية الفردية ويمثلها الفيلسوف الإنجليزى جودوين والمفكر الألمانى شترينر ، وهى تقوم على الحرية المطلقة للفرد إزاء أى سلطة أو جماعة ..واللاسلطوية الجماعية أو الشيوعية ويمثلها الثوريان الروسيان باكونين و كروبوتكين والمفكر الفرنسى برودون ، و هى تنشد مجتمع تتعاظم فيه الحرية الفردية ، و تنتفى فيه السلطة القمعية ، فى إطار جماعى منظم تعاونيا ، باعتبار الإنسان فى النهاية حيوان اجتماعى ..واللاسلطوية المسيحية ويمثلها الروائى الروسى الشهير تولوستوى الذى استلهم من المسيحية رؤى تحررية و لا سلطوية.كما ظهر مؤخرا من تأثر بأفكار هذا التيار من المفكريين الإسلاميين على قلتهم النادرة .
وبدأ من منتصف القرن التاسع عشر ، ظهرت اللاسلطوية الجماعية أو الشيوعية كتيار قوى فى العديد من البلدان الأوربية و الأمريكية ، شاركت فى الأممية الأولى ، واشتبكت فكريا وتنظيميا مع الماركسية ، وخرج ممثلوها ليشكلوا أممية أخرى ، وشارك ممثلوها فى العديد من الحركات الثورية فى أسبانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا حتى منتصف الثلاثينات من القرن العشرين ، وخلال ذلك ظهرت فى داخل هذا التيار اللاسلطوية النقابية فى فرنسا ، والتى بلغت أوجها فى أوائل القرن العشرين ، وظهر اتجاه ماركسي لا سلطوي فى مواجهة التفسير اللينينى السلطوى للماركسية ، ويمثله كل من روزا لوكسمبورج و بانيكوك ، والمعروف الآن بشيوعية المجالس ، وهم الأقرب للماركسية الأصيلة من كل التيارات الماركسية الأخرى.
وما أن انتصفت ثلاثينات القرن العشرين حتى انتهت كل هذه التيارات لفترة كمون طويلة ، حتى اعتقد البعض أنها انتهت تماما ، وأصبحت مجرد جزء من التاريخ ، ومجرد تراث من الأفكار . ومع منتصف الخمسينات من القرن العشرين بدأ جهد نظرى لإحيائها ، حيث ظهرت كتابات جديدة لمفكرين جدد تعتمد على نقد الكتابات والممارسات السابقة ، وتحاول استشفاف رؤى جديدة تلتزم بالإطار العام اللاسلطوى والتحررى ، وفى منتصف الستينات ومع ظهور اليسار الجديد ، خرج هذا التيار من كمونه ، واخذ ينتشر مجددا فى العديد من بلدان غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، ومع سقوط الدول التى تدعى بالاشتراكية فى أواخر الثمانينات ، و سقوط اللينينية أحزابا وأفكارا مثلما سقطت الاشتراكيات الديمقراطية والإصلاحية، و زيادة التشكك فى عبادة الدولة ، واستمرار نقد كل من النظرية والممارسة السلطويتين ، ونقد الأيديولوجيات التسلطية والقومية ، أخذ هذا التيار يكسب مواقع متزايدة فى أوروبا واستراليا والأمريكيتين وشرق آسيا ، وبعض بلدان الشرق الأوسط وجنوب أفريقيا ، وفى السنوات الأخيرة شارك هذا الاتجاه فى الكثير من الأحداث ، و بفضل ثورة الاتصالات الأخيرة أخذ ينتظم عالميا ، ويزداد تأثيره وضوحا ، وعرف مفكرين جدد أشهرهم عالم اللغويات الشهير ناعوم شومسكى، سام دوجلوف ودانيال جرين وغيرهم …ويدخل تحت هذا التيار مدارس عديدة تتفق فى الإطار العام ، وتختلف فيما بينها فى التفاصيل ، فهناك شيوعية المجالس ، والشيوعية التحررية ، والماركسية الليبرالية ، و الاستقلالية ، والمواقفية ، و اللاسلطوية النقابية ، المنبرية ..الخ .
وسأحاول فيما يلى شرح الإطار العام لهذا التيار ، أهدافه و وممارسته ، كما أفهمه . فاللاسلطوية ليست مذهبا جامدا ، ولا تعرف النصوص المقدسة ، ورموزها من المفكرين مجرد مجتهدين لا أنبياء ، ولا قداسة لهم ولا لنصوصهم ، ومن ثم يقبل هذا التيار النقد والتطوير داخل إطار مبادئه العامة.
الهدف
أن يكون لنا هدفا نسعى إليه لا يعنى أن نكون وبالضرورة خياليين ، ومن ثم فالبحث الإنسانى المشروع عن تنظيم اجتماعى يقوم على أساس التعاون الاختيارى الحر بين أفراد المجتمع لتلبية احتياجاتهم المشتركة ، وبشرط أن تتعاظم فيه الحرية الإنسانية ، وتختفى فيه السلطة القمعية ، ليس حلما خياليا مهما ظهر لنا من صعوبات تحقيقه على أرض الواقع الذى تجذم حقائقه الصلبة باستحالة تحققه حتى الآن ، فلهذا الهدف تاريخ طويل بطول التاريخ البشرى المكتوب كله ، ولطالما حلم البشر بالحرية أفرادا و جماعات ، وناضلوا من أجل ما حلموا به ، وبرغم اتهامهم أحيانا بالخيالية ، فقد أحرزوا تحقيق جزئى للحلم عبر أشكال متنوعة من الانتصارات والهزائم ، ومن التقدم والتراجع ، ومن التجارب والأفكار ، وهو ما يلخص جوهر الحياة الإنسانية بأسرها ، فالبشر كانوا ومازالوا و سيظلون يحلمون بتحررهم الحقيقي ، الذى يعنى فى جوهره سيطرتهم على ظروف حياتهم ، وتعظيم قدرتهم على اتخاذ ما يعنيهم من قرارات ، وأن يعيشوا وفق ما يقرروه لا ما يقرره غيرهم ، وتعظيم قدراتهم على الاختيار من بين البدائل المختلفة التى تطرح عليهم خلال مسار حياتهم . وإذا كان البشر لابد أولا أن يوفروا احتياجاتهم المختلفة عبر الإنتاج المادى الذى يشكل أساس وجودهم وتطورهم ، فلا شك أيضا فى أن تطوير قدراتهم الإنتاجية بالسيطرة على الطبيعة وتحويلها لما يشبع احتياجاتهم ، مرتبط كذلك بالتحرر من بعض قيود الطبيعة التى تكبلهم ، فإذ ما أعاقتهم البحار عن عبورها اخترعوا السفن ، وإذا ما قيدتهم الجاذبية عن الطيران اخترعوا الطائرات ، وبأمثال تلك المخترعات لم يستطيعوا التحرر فحسب من القيود الطبيعية على حريتهم فى الانتقال ، بل ازدادت قدرتهم الإنتاجية كما ونوعا وحققوا كل ما حققوه من تقدم. وعلى مستوى التاريخ الاجتماعى كانت الثورات الاجتماعية تهدف دائما إلى تحرير المقهورين من تسلط من يملكون السلطة ، وهم وإن كانوا لم يحققوا حتى الآن التحرر الكامل من التسلط المتعالى عليهم ، الخفى منه والظاهر ، والمخادع منه والصريح ، إلا أنهم وعبر التاريخ الطويل قد حققوا ، وعلى نحو تدريجى المزيد من الحريات التى ما كان يحلم بها أجدادهم ، إلا أن ما تحقق لم يبلغ بعد الهدف المنشود الذى هو جوهر الوجود البشرى ، والذى يعطيه معناه ومبرره . فالعبودية مجرد حياة حيوانية ،لا ترقى لمستوى الحياة البشرية . وقديما اعتبر الرومان العبد مجرد آلة ناطقة مجردة من بشريتها.
ومن هنا فالهدف السالف الذكر ليس اختراعا بشريا ، وليس عالم مثالى سابق الإعداد علينا تحقيقه ، ولا هو مجرد مذهب جامد ، ولا مخطط من قبيل الهندسة الاجتماعية ، ولكنه هدف طبيعى للبشر يفسر تطورهم على كافة المستويات ، ولكن لما كان الإنسان ، ما هو إلا ظاهرة طبيعية معقدة للغاية هى إنتاج لمجتمع أكثر تعقدا ، ومن ثم لا يسهل فهمهما ، فى وجودهما وتطورهما ، فإن هذا الهدف الطبيعى يأخذ مسارات معقدة فى دفع التاريخ البشرى ، ويتجلى فى أشكال متعددة ربما لا يسهل الربط بينها وبين هذا الهدف ، أو ذاك النزوع لو نظرنا فحسب من سطح الأشياء لا من عمقها أو أن يقتربوا منه وكأنهم يبتعدون عنه أو على العكس .
فالمخترعين الذين ساعدوا البشر على تحقيق السيطرة المتزايدة على الطبيعة ، ومن ثم زيادة تقدمهم ، والثوار الذين هدموا مجتمعات ليقيموا مجتمعـات أخرى بديلة أكثر حرية ، لم يربطوا بالطبع بين ما فعلوه وبين الهدف اللاسلطوى ، وأن كانوا قد ساعدوا على الاقتراب من تحقيقه ، وقد أدعى بعضهم أحيانا أنهم ينشدوه ،وسعى البعض إليه ، إلا أنهم جميعا فشلوا فى الوصول إلى ما نشدوه.
أن ما يعوق تحقق الهدف اللاسلطوى على أرض الواقع ، هو أن المجتمعات البشرية منذ نحو ثمانية ألف عام ، وعندما عرفت ولأول مرة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ، ومن ثم الانقسام إلى طبقات مالكة ، وغير مالكة ، عرفوا شكل الدولة كتنظيم اجتماعى منفصل عنهم ليدافع عن مصلحة من يملكون ضد من لا يملكون ،الأمر الذى يتم باحتكار الدولة لمصادر العنف والقهر المسلح ، و من هنا عرفوا الانقسام بين أقلية تحتكر السلطة ، وأغلبية محرومة من السلطة . ومحتكرى السلطة يمتلكون أو يسيطرون على مصادرها ، و تلك المصادر هى الأساس المادى للسلطة والمشروعية ، فهى من تعطى الشرعية لمن يملكها وتحرمها من لا يملكها . و تتغلف السلطة دائما وراء ادعاءات مثالية مضللة كتمثيل الشعب أو الأمة أو العقل أو الطبقة أو القومية أو الدين ..الخ ، وما هى سوى مطلقات مجردة ومثالية وظيفتها الاجتماعية الوحيدة ، مجرد تبرير السلطة التى يمارسها فعليا وواقعيا أفراد ونخب ومؤسسات لا يحق لها تمثيل أحد ، سواء من من تحكمهم ، أو من تدعى استنادها لمرجعيتهم ، هم أفراد و نخب ومؤسسات اكتسبوا الشرعية ، ومن ثم السلطة لمجرد سيطرتهم على مصادرها المادية لا لأفضلية يتميزون بها على المحكومين.
ومصادر السلطة المادية هى :-
أولا:_ الثروة بما تعنيه من كل وسائل الإنتاج ، فمن يملكها أو يسيطر عليها يملك شراء قوة العمل واستغلالها لزيادة ثروته على حسابها ، والسيطرة عليها بالتحكم فى شروط حياتها وظروف عملها ، سواء أكانت قوة العمل هذه عبيدا أم أقنان أم عمال ، فالمحرومين من الثروة لا يملكون إلا الرضوخ لملاك الثروة من أجل ضمان بقائهم على قيد الحياة ، فسواء كنت مملوكا كعبد لمالك الثروة ، أو مضطرا كعامل للتنازل عن جزء من وقتك وحريتك وجهدك فقط لصالحه ، فأنت مجبر على الرضوخ لإرادته لأنه يملك وسيلة بقاءك فى الوجود ، فالملكية الخاصة للثروات حولت الأغلبية البشرية لسلع تباع وتشترى فى الأسواق لمن يدفع الثمن ، سواء على نحو كامل ومطلـق أو على نحو جزئى ونسبى ، وقد فقدت تلك الأغلبية حريتها لصالح من يملكون ، وليس ذلك فحسب ، فهؤلاء القادرين على احتكار وسائل العنف والمعرفة لقهر الآخرين هم أنفسهم مالكى و حائزى الثروة ، أو المسيطرين عليها. وهؤلاء القادرين على إملاء رغباتهم على الساسة والبيروقراطيين هم ملاك الثروة . فالدولة دائما هى الجهاز التنفيذى لملاك الثروة بكل ما تملكه من احتكار وسائل العنف والمعرفة.
ثانيا:- القوة بما تعنيه من وسائل العنف المسلح ، فمن يملكها أو يسيطر عليها قادر على إجبار من لا يملكونها على تنفيذ إرادته ، وقادر بواسطتها على الاستئثار ببعض أو كل الثروة بحجة حماية المجتمع من المجتمعات الأخرى ، أو مالكى الثروة من المحرومين منها ، فمن لا يملكون وسائل العنف مجبرين على التسليم بسيادة من يملكونها وتسلطهم ، والتنازل عن بعض أو كل نصيبهم فى الثروة مقابل تلك الحماية ، ومقابل استمرارهم فى الحياة . ومن يتمرد فعليه أن يمتلك نفس وسائل العنف ، ويستخدمها بكفاءة أكثر لو شاء الانتصار ، والذى إن تحقق له الانتصار ، اكتسب مصدر السلطة وشرعيتها ، وفرض إرادته على المهزوم .
فالذين يحاولون القيام بانقلاب عسكرى يشرعون فى جريمة مخالفة للقانون والشرعية القديمة ، وفى حالة فشلهم فسيقدمون للمحاكمة باعتبارهم مجرمين ومنتهكين للشرعية ومعادين للسلطة الشرعية ، وبمجرد نجاحهم فى ارتكاب جريمتهم ، يكتسبون السلطة والشرعية ويتحولون من مشروع مجرمين لثوار و لسادة و قادة ومصدر للشرعية ، ويقدمون للمحاكمة كل من يتمرد على سلطتهم باسم شرعيتهم الجديدة . فى حين يفقد أصحاب الشرعية السابقون شرعيتهم بمجرد هزيمتهم . فالحقيقـة العارية تقول أن بعد ثمانية ألف عام من الخروج من الغابة ، ومن ثم التمدين والتحضر فما زال البشر يحيون وفق قوانين الغابة ، وأن تهذبت شكلا ، فما زالت القوة مصدر الحق والشرعية ،ومازالت العلاقات البشرية هى بين وحوش تملك القوة وفرائس تفتقدها .
ثالثا:-المعرفة بكل ما تعنيه من وعى اجتماعى كالعلوم والفنون والآداب والفلسفات والأفكار والقوانين والأيديولوجيات هى أحد مصادر السلطة ، والتى تتيح لمن يملكها ، السيطرة والتحكم فيمن يفتقرون إليها ، ولما كانت هذه المعرفة هى إنتاج اجتماعى ، فأن قوة العمل التى تنتجها هى الشرائح الاجتماعية المثقفة ، ورغم تميزها الاجتماعى نظرا لطبيعة ما تنتجه ، إلا أنها فى النهاية وبرغم كل ما يميز أفرادها ظاهريا من بريق اجتماعى ومستوى معيشى مرتفع ، خاضعة لسيطرة وتحكم من يملكون أو يسيطرون على الثروة والقوة ، وحتى من يتمرد من هذه الشرائح ، فأنه معرض للحرمان من الثروة ، وقهر القوة وعنفها . ومن ثم فمشاركة هؤلاء فى السلطة مرهون فحسب برضاء من يحتكرون الثروة والعنف ، وبواسطة ما تملكه نخب السلطة من المعرفة ، ووسائل إنتاجها تتحكم فيمن لا يملكون أى من الثروة والقوة والمعرفة ، فعقول البشر هى صناعة التربية والتعليم والدعاية والإعلام والفنون والآداب ومؤسسات الدين ، فمن يملك تلك الوسائل يملك تلك العقول إلا من استطاع التمرد عليها ، من منتجى ومستهلكى المعرفة ، ذلك التمرد مشروط بدوره بشروط ذاتية وموضوعية تدفع القلة إليه فى اللحظات العادية ،والتى يكون لديها التكوين النفسى والعقلى و الشجاعة والاستعداد لدفع ثمن التمرد .
وتتسع هذه القلة لتتحول لأغلبية فى لحظات التمرد والثورة . ومن زاوية أخرى فالمعلومات الضرورية لكى تصدر حكما صحيحا لاتخاذ قرار ما ، ومن ثم يكون لديك القدرة الفعلية على المشاركة فى السلطة ، ليست متاحة إلا لمن يحوزون على السلطة فعليا ، فاحتكار النخب الحاكمة لمثل هذه المعلومات يتيح لها استمرار احتكار السلطة لأنها تحتكر المعلومات التى تؤهلها لاتخاذ القرارات ، ومن ثم لا تسمح بإتاحتها للجميع لاعتبارات الأمن الذى هو فى حقيقته أمن السلطة والنخب التى تمارسها، والطبقات التى تجسد مصالحها تلك النخب .
فطبقات القاهرين التى تمارس السلطة القمعية بالسيطرة على وسائلها ، ليست بأفضل من طبقات المقهورين التى تمارس السلطة عليها ، فتلك القلة من الملاك سواء أكانوا إقطاعيين أو رأسماليين والساسة و العسكريين والبيروقراطيين من محتكرى السلطة ، ليسوا بالأفضل على أى نحو من الأغلبية المحرومة من السلطة الفعلية ، حتى يبرروا تحكمهم فيها ، وذلك باتخاذ القرارات التى تمس حياتها فى حين أنها مغلوبة على أمرها قهرا و خداعا وجهلا واضطرار.
وهاكم التاريخ البشرى بأسره ليبرهن لكم بعدد وقائعه و أحداثه على كم هى فاسدة وغبية وجاهلة وحمقاء وظالمة تلك الطبقات القاهرة عبر التاريخ ، والتى طالما ادعت نزاهتها وذكائها وعلمها وحكمتها وعدالتها أبواق الدعاية من منتجى المعرفة والفنون والآداب ، تلك القلة التى كم كيل لها من المديح ، ولاقت من الاحترام والتقديس والعبادة ما لا تستحقه ، وهى فى غالبيتها وجوهرها مجموعات من البلطجية و المجرمين والدجالين والسفاحين ، فالفرق بين قنبلتى ترومان الذريتين و هولوكست هتلر ، هو الفرق بين شرف جريمة المنتصر وعار جريمة المهزوم ! .
أليسا وأمثالهما مجرد زوائد طفيلية تمتص قوى المنتجين الفعلين للثروة والوعى الاجتماعى لمصالحها الأنانية ، فكم أهدرت طبقات القاهرين من موارد ومن إمكانيات للتطور ولرفاهية الأغلبية لصالح أهواءها ضيقة الأفق ، وكم من جرائم ارتكبتها لتحافظ على مركزها ونفوذها وامتيازاتها واستغلالها لتلك الأغلبية ، وكم ما سببته أنانيتها الوحشية من مآسى و أهوال للأغلبية المغلوبة على أمرها ، وكل التاريخ المكتوب لا يبرهن وعلى أى نحو على صحة ما تدعيه من أنها تعبر عن المصلحة العامة ، بل على عكسه تماما ، فلمصلحة من كانت كل تلك الحروب التى شهدتها البشرية ومات وجرح وأسر فيها بلايين البشر ، ولمصلحة من دمرت مدن وقرى وتمت تسويتها بالأرض ، ولمصلحة من لوثت أنهار وبحيرات و بورت حقول وحرقت غابات ومراعى بما لا يمكن حصره ، ؟ ولمصلحة من أخذ بلايين البشر الفقراء والمقهورين فى تشييد المعابد الهائلة ، والقلاع الرهيبة ،والأهرامات الشامخة ، والأسوار العظيمة ، والقصور المنيفة ، وخلال آلاف السنين فى حين كانوا يعيشون فى أكواخ الطين والبوص ، ولمصلحة من لوثت البيئة حتى أصبح الكوكب الذى نعيش عليه مهدد بأن يصبح غير صالح للحياة ؟، ولمصلحة من يستنفذ سباق التسلح الثروة الطبيعية والبشرية فى حين يتلظى الملايين تشردا ا؟، ولمصلحة من ترمى المحاصيل فى البحار للمحافظة على سعرها فى حين يتضور الملايين جوعا ؟ أليس كل هذا لمصلحة أقلية أنانية وجشعة ولا أخلاقية فى حقيقتها برغم ما تتشدق به من قيم عليا وتتغلف فيه من إدعاءات عقلانية ، فأنها لا ترى أبعد من قدميها. لا ترى أنها مثل ضحاياها فقدت حريتها وأمنها بمجرد أن تسلطت عليهم سواء أكانت إقطاعية أم بيروقراطية أم رأسمالية .
وهل تكفى الضرورة الاجتماعية التى تحكم التطور الاجتماعى ، لتبرير أو تفسير كل تلك الحماقات التى لا علاقة لها بتطوير قوى الإنتاج باعتباره السبب الجوهرى للتقدم الاجتماعى ؟.فما هو الذى يساعد على تطوير قوى الإنتاج باعتبارها قاطرة التطور الاجتماعى ؟ سوء إدارتها و تدميرها وتبذيرها وإهدارها ، أم الاختراع والإبداع والعلم والعمل البشرى .من ساعد فعلا على تمدين البشرية وتقدمها ؟ إبادة الهنود الحمر واسترقاق الزنوج أم قوة الإبداع البشرى ذهنيا لدى العلماء والمخترعين ، وبدنيا لدى العمال والمهنيين والحرفيين .
فالسلطة ومصادرها المختلفة ليست مفسدة لمن يملكها ويحوزها ويسيطر عليها فقط ، فهى مفسدة أيضا للمحرومين منها ، فالغالبية الساحقة من الشرور والجرائم الإنسانية على جانبى المجتمع المنقسم على نفسه لطبقات ، هى الابنة الشرعية لهذا الانقسام الناتج عن احتكار الأقلية للسلطة ومصادرها ، فالتكالب على الثروة والخوف عليها والرغبة فى زيادتها من جانب ، مثلما الحرمان منها من جانب آخر سواء بسواء ، يشوه كلا الطرفين المالك والمحروم ، ويطلق كل الشرور والآثام التى تدور فى غالبها بهدف الحصول على الثروة ، كما يشوه العنف القاهر والمقهور ، المنتصر والمهزوم ، الجلاد والضحية، ما بين غرور القوة وزهوها ، وانسحاق الضعف وخوفه ، يتولد أسوء ما فى البشر .
وقد حاولت البشرية عبر تاريخها المكتوب بالوعظ والفلسفة والقانون والدين والتربية أن تصلح ما أفسدته السلطة ومصادرها ، وما فلحت فى ذلك ولن تفلح ما دامت تصر على معالجة أعراض المرض لا أصله ، فالشر مثلما الخير ليس فطرة بشرية جبل عليها البشر ، و إنما هو صناعة اجتماعية ، فالبشر أبناء ظروفهم وبيئتهم الاجتماعية . حتى أن بوذا نفسه كان يرى أن منهجه الفلسفى والأخلاقى الذى يهدف لتخليص الحياة البشرية من الألم والوصول بها إلى السعادة الكاملة ، يستلزم نظام اجتماعى يساعد البشر على اتباعه ، فكل وصايا بوذا عن عدم إيذاء أى كائن حى ورفض العنف ، وعن عدم التكالب الوحشى على الثروة وملذات الحياة ، لم تمنع البوذيين عن مخالفتها وارتكاب كل الجرائم التى تخالف هذا المذهب فى أصوله ، لأنهم لم يعرفوا نظاما اجتماعيا يساعدهم على ذلك ، وقد تحولت البوذية فى النهاية لمؤسسة كهنوتية فى خدمة محتكرى السلطة لتبرر تسلطهم وقهرهم واستغلالهم للأغلبية المنشغلة بالخرافات التى أبعدتهم عن جوهر الفكرة البوذية الأصيلة التى لا علاقة لها فى الحقيقة بالغيبيات . وليس هذا بغريب على السلطات القمعية عبر التاريخ إن لم يكن من ضرورات وجودها واستمرارها ، فقد حولت الستالينية ضريح لينين لما يشبه المزار الدينى ،ونشرت تماثيله وصوره فى كل مكان ،وأصبحت زيارة الضريح بمرور الوقت طقس شبه دينى .
وعلى العموم فالشرور التى تسببها السلطة القمعية أكثر بما لا يقاس مما تدعى أنها ما قامت إلا لتمنعه.
ما يجب أن نعلمه هو أن اللاسلطوية الجماعية ترتكز على الرفض الكامل لمجموعة من الأساطير هى :-
أولا:- أن الدولة ضرورة اجتماعية مطلقة لضمان سير المجتمع وتماسكه وحمايته من أعدائه الداخليين والخارجين عن قوانينه وقواعده ، وأعدائه الخارجيين من الطامعين فى السيطرة عليه وغزوه ، وحماية غالبية المواطنين الصالحين والطيبين من القلة الضالة والمنحرفة والخارجة عن السيطرة والقانون . وأن المشكلة ليست فى السلطة القمعية فى حد ذاتها ، ولكن فيمن يمارسها ، وكيف يمارسها ، والحقيقة أن السلطة تفسد من يمارسها ، ولو خلصت نيته وحسنت أخلاقه . و أنه من الخيالية أن نرتكن لوهم أن تحكمنا الملائكة البشرية التى لم يخبرنا التاريخ أنها حكمتنا من قبل ، فحتى لو حكمتنا فستتحول لشياطين بمجرد إحساسها بدفء مقاعد السلطة ، والسلطة تقمع وتشوه من تمارس عليهم مثلما تشوه وتفسد من يمارسوها . وهذا لا يعنى إنكار أن البشر فى أمس الحاجة دائما لتنظيم يضمن تعاونهم ، وينظم نشاطهم الجماعى لتلبية احتياجاتهم المشتركة دون أن يقمعهم ودون أن يتعالي عليهم ، وهو أمر مختلف تماما عن السلطة التى تقهرهم رغما عن إرادتهم ، ومن خارجهم ، فهناك فرق بين سلطة إدارية تمارس للتنظيم ، كسلطة رجل المرور فى الشارع ، وسلطة قبطان السفينة فى أعالى البحار ، وسلطة الطيار فى طائرته ، وبين السلطة السياسية القهرية والمتعالية والمنفصلة عن البشر التى ترفضها اللاسلطوية الشيوعية. وهذا الرفض لا يعنى أن اللاسلطوية الشيوعية ضد تنظيم المجتمع عبر هيئاته التفويضية المنتخبة ، و اللاسلطوية الشيوعية بالضرورة مع وجود قوة رادعة و قامعة للاعتداءات المخلة بأمن الناس وحريتهم وحقوقهم .
ثانيا:- أن الديمقراطية التمثيلية النيابية هى أقرب شكل ممكن لممارسة السلطة يضمن الحرية للبشر ، وما هى فى الحقيقة سوى مجرد إعطاء الأغلبية الحق فى أن تذهب بشكل دورى لتختار من بين السياسيين الذين يمثلون النخبة الحاكمة من سيمارس عليهم السلطة وباسمهم ، فى تمثيلية لا تنطلى إلا على السذج ، فمن يملكون أى من مصادر السلطة ، هم وحدهم القادرين واقعيا على الفوز فى الترشيح للمجالس التمثيلية الذى يكتفى المحرومون منها واقعيا بمجرد حقهم القانونى والشكلى فى الترشيح ، فليس لهم سوى اختيار أى من هؤلاء المرشحين سيمثلهم لعدة سنوات ، معتمدين فى اختيارهم على مدى تأثرهم بالدعاية الانتخابية التى تملك وسائلها النخب الحاكمة والمالكة التى يمثلها هؤلاء المرشحين . وهى شكلية كذلك لأن النخب السياسية سواء فى الحكم أو فى المعارضة تحتكر وحدها دون الجماهير الناخبة كل وسائل التأثير على عقول تلك الجماهير ، والمحجوب عنها المعرفة والمعلومات الضرورية ، والخاضعة لعملية تشكيل للعقل وتوجيهه إلى ما تريده هذه النخب ، التى تتنافس فيما بينها فى لعبة كراسى موسيقية ، لتبادل مقاعد الحكم و المعارضة ، فبطاقة الاقتراع بين أيدى شعب أهمل تثقيفه عمدا ، وتتسلط عليه أدوات غسل العقل وتعليبه ، و صناعة الوعى وتشكيله ، ليست سوى حيلة ماكرة لإنتاج وتجديد إنتاج أرستقراطيات حاكمة مقنعة بالتمثيل الشعبى الكاذب ، مهمتها أن تحافظ على مصالح ملاك الثروة.
ثالثا:- أننا يجب أن نمر بمرحلة انتقالية مؤقتة نحو المجتمع اللاسلطوى الشيوعى، تقوم فيها الدولة الاشتراكية ، كإله جديد يحتكر كل السلطة ومصادرها باسم الأغلبية التى تقع فى العبودية لمن يملكون السلطة الفعلية من الساسة والبيروقراطيين والعسكريين ، والدولة الاشتراكية هنا مؤسسة كلية القدرة والجبروت تسحق كل الخاضعين لسلطانها الشامل بأسوأ مما تفعله الدولة البورجوازية ، وهى تستند لمطلق مجرد ومثالى جديد هو الطبقة العاملة ، يبرر السلطة الواقعية لأفراد ونخب تسيطر فعليا على مصادر السلطة دون من تدعى تمثيلهم ، ومن ثم تنفرد بممارستها ، فمن يحوز على السلطة ومصادرها لا يتنازل عنها بل لابد وأن يدافع عن ما يحوزه بكل الوسائل الممكنة مهما بلغت شراستها ، ومهما كانت أفكاره ونواياه المعلنة ، فأنه مضطر لخيانتها لمقتضيات الحفاظ على موقعه فى السلطة ، هذا ما أثبتته وقائع التاريخ فى الدول التى كانت تدعى بالاشتراكية ، وما يبرهن عليه المنطق ، فالبشر الأعلى ليسوا بملائكة حتى يتنازلوا عن امتيازاتهم ونفوذهم بمحض إرادتهم دون أى ضغط من من هم أسفلهم من البشر .
ومن هنا فالتحرر النهائى لكل البشر يعنى أن يسيطر كل البشر، جماعيا وعلى قدم المساواة على كل مصادر السلطة القمعية ، بالسيطرة الجماعية على مصادرها المختلفة الثروة والعنف والمعرفة ، عبر تنظيم اجتماعى مختلف جذريا عن ما نعرفه من مجتمعات مؤسسة على انقسام المجتمع بين من يملكون أو يسيطرون على السلطة ومصادرها ، وبين من لا يملكونها أو يسيطرون عليها . ومن ثم فاللاسلطوية الشيوعية تعنى فى المقام الأول القضاء على تسلط الأقلية على الأغلبية بالقضاء على احتكارها للمصادر المادية للسلطة. والقضاء على احتكار السلطة لا يعنى الفوضى وغياب النظام ، و لا أن يعيش الأقوياء على حساب الضعفاء ، ولا إطلاق الشرور البشرية الأنانية من عقالها ، ولا التحلل الأخلاقى و الانفلات السلوكى كما يتصور البعض ويحبون ، كما لا يمكن أن يأتى التحرر عن طريق الإرهاب والعنف ، لأن من يمارسهما يحتكر مصدر هام للسلطة يفرض به مشيئته على من لا يملكه ، وهى إمكانية يحتكرها البعض بطبيعتها ، فليس كل إنسان قادر على ممارسة العنف ، سواء نفسيا أو بدنيا ، ومن ثم فهى ليست وسيلة للتحرر بقدر ما هى وسيلة لإحلال نخبة حاكمة محل أخرى ، ف اللاسلطوية الشيوعية هى القضاء على قانون الغابة الحاكم لتاريخ البشرية رغم تحضرها ، والذى ينص على أن من يملك وسائل العنف قادر على فرض إرادته على من لا يملكوه . ف اللاسلطوية الشيوعية على العكس من كل هذا ، هى تنظيم اجتماعى يضمن أعلى درجات الحرية والعدالة والمساواة بين أفراده ، مما يتيح لهؤلاء الأفراد أن يمارسوا وعلى نحو فعلى كل المثل العليا الإنسانية التى تكبحها وتشوهها البنية السلطوية والطبقية والهرمية فى المجتمعات البشرية ، ومن ثم لن يتحقق هذا التنظيم سوى بفعل جماعى لجماهير البشر الواعية بما تفعله ، ومن ثم فاللاسلطوية الشيوعية تتبرأ من الخيالية والجمود والمثالية كما تتبرأ من الإراديـة والعنف ، و مرجعيات التمثيل لكيانات و أفكار مطلقة ومثالية ومجردة ، فهى مجرد مبادئ تحدد الإطار العام لمجتمع المستقبل تاركة التفاصيل للجماهير لتصنعها بنفسها عبر تحركها الواعى المنظم ، عبر التجربة والمناقشة الحرة . وعبر عملية تحررها الذاتى .
* و اللاسلطوية الشيوعية تختلف مع اللاسلطوية الرأسمالية التى تكتفى بالحريات والحقوق الفردية السياسية والمدنية ، ، فطالما مورست تلك الحقوق والحريات ، وهناك من يحتكرون مصادر السلطة المختلفة دون سواهم فهى لا تعنى شيئا إلا لمن يملكون السلطة ، ومن ثم فالتحررية الرأسمالية تحررية زائفة وفارغة المضمون ، و شكلية فى حقيقتها ، فلا حرية بين البشر دون أن يتساوى الجميع فى الفرص و ظروف الحياة ، وتلك المساواة فى الفرص لا تعنى إهدار التمايزات والاختلافات بين الأفراد ، بل تتيح لهم إبراز تلك التمايزات والاختلافات على قاعدة من عدالة الفرص المتساوية للجميع ، وهذا غير ممكن طالما هناك من يملكون أو يسيطرون على الثروة ، وهناك من لا يملكونها أو يسيطرون عليها ، ولا حرية طالما كان هناك من يسيطر على وسائل العنف دون الآخرين ، وطالما كان هناك من يحتكر وسائل المعرفة دون البعض ، وانه مهما كانت التمايزات و الاختلافات بين الأفراد فأنها لا تبرر لقلة منهم أن تحتكر السلطة ومصادرها دون سواهم ، و أن المساواة فى السلطة ، ومن ثم مصادرها لا يعنى عدم احترام القدرات والمواهب والتخصصات الفردية ، بل يتيح لها التحرر من أسر التفاوت فى السلطة والثروة ، وقهر العنف والحاجة والجهل.
* وتختلف اللاسلطوية الشيوعية مع الاشتراكيات السلطوية المختلفة ،إصلاحية كانت أو ثورية ، والتى فى حقيقتها شكل من أشكال العبودية للدولة ، يفرض على الأغلبية لصالح استمرار احتكار البيروقراطية للسلطة ومصادرها . فالبشر يحتاجون للحرية بقدر احتياجهم للعدالة ، و لن يكسبوا الكثير حين يتحررون من الرأسماليين ليسلموا أنفسهم عبيدا للبيروقراطيين . وحين يضمنون الخبز فى مقابل حريتهم فأنه من السهل جدا أن يخسروه . و اللاسلطوية الشيوعية وإن كانت تقدر أبلغ التقدير الماركسية كتراث فكرى عملاق ، إلا أنها تختلف مع التفسير السلطوى اللينينى لها ، و تختلف مع فرضيتها الأولية بضرورة الدولة التى تتركز فى يديها السلطة ومصادرها المادية كمرحلة مؤقتة وانتقالية لمجتمع يقوم على نفس المبادئ والأهداف اللاسلطوية الشيوعية. وتعتقد اللاسلطوية الشيوعية أن المرحلة الانتقالية المطلوبة ليست دولة من نوع جديد بل هى الثورة نفسها باعتبارها عملية مزدوجة من هدم القديم وبناء الجديد.
التنظيم الاجتماعى الذى يكفل التحرر الحقيقى للبشر ، يتأسس على الملكية الاجتماعية لكل من وسائل الإنتاج والعنف والمعرفة ، باعتبارها مصادر السلطة المادية . و يقوم من ناحية أخرى على احترام حقيقة تفرد الإنسان كفرد له سماته وشخصيته الفريدة ، والذى تتعدد أبعاد شخصيته ، بسبب مورثاته البيولوجية و مكتسباته الاجتماعية وخبراته التاريخية وقدراته الخاصة . تماما مثلما يجب أن نحترم حقيقة تميز الجماعات البشرية المختلفة ثقافيا ودينيا ولغويا . أن هذا الكائن الإنسانى الفريد متعدد الأبعاد والأنشطة والرغبات والاهتمامات والانتماءات ، يأتى إلى العالم مكبلا بالعديد من القيود الذى لا دخل له فيها ولا اختيار ، سواء الوراثية أو الاجتماعية ، مجبرا على اكتساب مورثاته وجنسه و لغته وثقافته وعقيدته وعاداته وتقاليده ومجمل وعيه . ومن ثم فيجب لتحريره أن يكون له الحرية فى أن ينضم طوعا طالما قارب سن الشباب ، إلى جماعة بشرية معينة تقوم بنشاط محدد ، ليتعاون مع أفرادها فى تلبية احتياجاتهم المشتركة عبر هذا النشاط . ومن ثم تتعدد الجماعات التى ينضم لها الفرد بتعدد أنشطته واهتماماته وأبعاده ورغباته وانتماءاته .
يبدأ بناء المجتمع اللاسلطوى بتحرر إرادة الفرد العاقل والبالغ بالطبع ، فى أن يحدد ما يود ممارسته من نشاط ، وما يود أن ينضم إليه من جماعات ، وما يدخل فيه من علاقات اجتماعية مختلفة ، وبالطبع تتنوع الجماعات من إنتاجية ومهنية واستهلاكية وسكانية و خدمية وتعليمية وثقافية واجتماعية ودينية لتشمل كل أوجه النشاط البشرى ، ومن هنا تتعدد انتماءات الفرد و أنشطته وعلاقاته الاجتماعية المختلفة و تتحدد وفق إرادته. ويقوم المجتمع اللاسلطوى على شبكة تحتية من تلك الجمـاعات الأولية المتباينة الأنشطة بتباين النشاط البشرى ، والتى تنشأ لتلبى الاحتياجات البشرية المختلفة ذلك لأن البشر ليسوا مجرد حيوانات منتجة فحسب أو مجرد مقيمين بمكان ما فقط ، ومن ثم لا يمكن بناء المجتمع البشرى على جانب واحد من نشاطهم بل يجب أن يبنى مراعيا تعدد جوانب شخصيتهم و أبعادها ومن ثم تتعدد الجماعات بتعدد جوانب الشخصية .
وفيما يتعلق بتنظيم شئون تلك الجماعة فهو كالتالى :-
لما كان كل نوع من أنواع النشاط البشرى يلزمه أساس مادى لممارسة النشاط من مصادر السلطة المختلفة حسب الحالة ، فيكون للجماعة حق الانتفاع على نحو متساو بين أعضاءها بكل مصادر السلطة المرتبطة بممارسة نشاطها فحسب ، ويبقى للأعضاء دائما حق تملك مقتنيات لاستعمالهم الشخصي .
و تتأسس إدارة الجماعة على الديمقراطية المباشرة ، التى تعنى أن كل ما يتعلق بنشاط الجماعة و أفرادها فيما يتعلق منه بنشاط الجماعة ، يحق لكل أعضاء الجماعة مناقشته و اتخاذ قرارا بشأنه على نحو ديمقراطى. وعلى الجماعة تفويض من تراهم من مختصين فى الأمور التى يحتاج تقريرها إلى مختصين ، ويحق للجماعة مراقبة هؤلاء المفوضين ومحاسبتهم وتكلفيهم وسحب التفويض منهم فى أى وقت إذا ما أخلوا بوظائفهم . ومن ثم تنقسم القرارات إلى قرارات سياسية يتخذها أعضاء الجماعة ديمقراطيا ، وقرارات إدارية و فنية وتنفيذية يتخذها المختصون الذين تفوضهم الجماعة فى حدود اختصاصهم . كما أن هؤلاء المفوضين لا يحصلون من الجماعة على أكثر مما يحصل عليه العضو العادى مقابل أداء خدماتهم .
اللاسلطوية الشيوعية لا تعنى عدم احترام المعرفة والعلم ، ومن ثم التخصص والموهبة والقدرة الفردية ، ولا تعنى عدم احترام النظام و القواعد . وبناء على ذلك فلكل جماعة أن تحدد القواعد التى تنظم أوجه نشاطها ، وأن تعاقب أى عضو من أعضاءها يخرج عن هذه القواعد والنظم التى حددوها بأنفسهم ، أو قبلوها مع انضمامهم للجماعة ، وأن تفصل فى الخلافات التى قد تحدث بين الأعضاء ، والمخالفات التى قد يرتكبوها.
ومن هذه الجماعات الأولية التى تشكل خلايا المجتمع البشرى ، تتشكل اتحادات متنوعة بتنوع النشاط البشرى فيما بين الجماعات المختلفة أو المتشابهة ، وذلك من أسفل إلى أعلى ، لتلبية احتياجات ومصالح بشرية أكثر اتساعا تهم قطاعات أوسع من البشر ، عبر الاتحاد بين الجماعات والاتحادات المختلفة من مستوى الاتحادات المحلية وحتى الكوكب بأسره ، فتنشأ اتحادات على أسس جغرافية ، وأخرى على أسس اقتصادية أو مهنية أو خدمية أو ثقافية أو دينية أو قومية .. الخ . تلك الاتحادات تقوم على الانضمام الطوعى للجماعات والاتحادات المختلفة عبر مفوضين منتخبين من تلك الجماعات والاتحادات ، والتى يحق لها مراقبة هؤلاء المفوضين ومحاسبتهم وتكليفهم وسحب التفويض منهم فى أى وقت إذا ما أخلوا بوظائفهم ومقتضيات تفويضهم .
ومثلما يحدد أعضاء الجماعات القواعد التى تلزمهم فى ممارسة نشاطهم الجماعى ، تحدد الجماعات والاتحادات القواعد الملزمة التى تنظم نشاطها الجماعى ، وأن تعاقب المخالفين لتلك القواعد ، و أن تفصل فى الخلافات التى قد تحدث بين الجماعات والاتحادات المختلفة.
ويبقى أن أشير إلى:
أولا :- إذا كانت عضوية الأفراد للجماعات وعضوية الجماعات للاتحادات طوعية ، فأن حق الانفصال مكفول للأفراد من الجماعات ، والجماعات من الاتحادات . وبالطبع فحق الأفراد فى تكوين الجماعات المختلفة ، والاتحادات حرية مكفولة للجميع.
ثانيا:- أن حقوق سلطة التفويض هى حقوق إدارية و تنفيذية وتنظيمية ، وليست سياسية ، فالمفوضين ملزمين بالإرادة السياسية لمفوضيهم ، كما أنه لا امتيازات لهم بسبب أداءهم لوظائفهم .
ثالثا:- من الطبيعى أن أى سلوك أو نشاط سواء فردى أو جماعى يعرض أمن الناس وحريتهم وحقوقهم للانتهاك والخطر ، لابد و أن يواجه بالردع أو العلاج اللازم عبر القواعد القانونية الملزمة للجماعات والاتحادات .
رابعا :- اللاسلطوية الشيوعية مشروع أممى ، ومعادي لكل الحركات السياسية القائمة على أساس قومى أو دينى أو عنصرى ، مشروع يهدف لتحرير كل البشر على ظهر الأرض ، و لا يعترف بشرعية أى حدود جغرافية أو انفصالية بين البشر بسبب اختلاف قومياتهم أو أديناهم أو ثقافاتهم أو أجناسهم أو أعراقهم أو لغاتهم . ويعتبر أن هذا التحرر غير ممكن إلا على مستوى الكوكب بأسره ، و يرى أن الحل لمعظم مشكلات البشرية الآن ، ولكى تتخلص من حماقتها وشرورها ، هو بناء مجتمع لاسلطوى يضم كل البشر وبصفتهم بشر فحسب على تلك الأرض وطنهم الوحيد ، وملكيتهم الجماعية المشتركة ، وقاربهم الذى يسبحون به فى الكون اللانهائى ، بعيدا عن كل ما يفرقهم على أساس عنصرى بغيض .
هذا هو الإطار العام لأهداف اللاسلطوية الشيوعية ومبادئها ، الذى يحمل بداخله إمكانيات الاختلاف فى التفاصيل بين متبنيه .
الممارسة
اللاسلطوية الشيوعية حركة ثورية لا تستهدف الوصول للسلطة السياسية من أجل تغيير الواقع ، بل تستهدف هدم كل سلطة قمعية منفصلة عن الجماهير . تستهدف أن تحرر الطبقات المقهورة نفسها ذاتيا ، ، عبر فعلها الجماعى الواعى المنظم ، لا أن تحـل هى محل تلك الطبقات لتصنع لها ، و عبر قمعها أو إدعاء تمثيلها ما تظنه أنه يحررها ، و لا أن يتحول ممثليها لنخبة حاكمة أخرى تحتكر السلطة وأدواتها ، و لذلك فهى تختلف فى ممارستها لتغيير الواقع الاجتماعى عن كل الحركات الثورية السلطوية ، فهى تؤمن بالتحرر الذاتى للطبقات المقهورة كوسيلة وحيدة للتحرر النهائى لكل البشر ، فالثورة الاجتماعية قد يصاحبها انقلاب فى السلطة ، لكنها عموما عملية أوسع نطاقا وأعمق امتدادا من مجرد أن تستولى نخبة ثورية سواء بدعم الطبقات المستغَلة والمقهورة أم بغير دعمهم على السلطة ، وأن تحل نخبة ثورية بدلا من نخبة رجعية فى الحكم . وبناء على ذلك فالثورة اللاسلطوية الشيوعية ، ثورة اجتماعية تندلع من أسفل إلى أعلى ، بهدف بناء اجتماعى مغاير على نحو جذرى لكل ما هو معروف من مجتمعات ، بناء يتم من أسفل لأعلى ، وهو ما لا يمكن تخيله إلا كفعل جماعى منظم للطبقات المقهورة الواعية بما ولماذا وكيف تفعله ، وهو الأمر المرهون بتغير جذرى فى وعى تلك الجماهير ، ذلك التغير مشروط بظروف مادية تدفع الجماهير المحكومة للتفكير على نحو مستقل عن ما تقدمه لها السلطة من وعى ، وهو ما لا يد لنا فيه ، وظروف ذاتية تسمح بتقديم وعى بديل يدفع تلك الجماهير للفعل الجماعى المنظم نحو التغيير ، وهذا هو دورنـا الوحيد .
ولكن كيف يحرر المقهورين أنفسهم ذاتيا ؟
لدينا إطار من الأهداف ، ولدينا واقع اجتماعى نريد تغييره فى هذا الإطار ، ومن ثم لابد أن تكون لدينا الوسائل الكفيلة بهذا التغيير ، و بما يتلاءم مع الأهداف ولا يتناقض معها ، وهو ما وقعت فيه الاتجاهات الماركسية السلطوية ، وأورثها الفشل .
لا شك أن ثمانية ألف عام من الاستغلال والعنف و القهر وصناعة الوعى الموجه لمصلحة الطبقات القاهرة ، تركت أثارها العميقة على وعى وسلوك الطبقات المقهورة ، مما أورثها نفسية المقهورين وما أدراك ما هى تلك النفسية ؟ فلا يظن أحد ، أن الهدف من التحرر من القهر والاستغلال ، هو مجرد التعاطف مع المستغَـلين والمقهورين والفقراء ، وليس مجرد الهاجس المبتذل الذى يقدمهم كملائكة لا تنقصها سوى الأجنحة ، فى حين يقدم الطرف الآخر كشياطين لا تنقصها سوى القرون . فالدافع الأخطر والأهم لنضالنا ، هو أن القهر بقدر ما هو تقييد للحرية وبقدر ما هو وسيله للاستغلال بقدر ما هو تشويه نفسى وعقلى لكل من القاهر و للمقهور ، فالعبيد لابد وأن يكذبوا وينافقوا ليضمنوا البقاء ، وأن لا يفكروا فحسب سوى فى طاعة و إرضاء سادتهم ، وهم قد ينتظرون لحظة التحرر لكى يمارسوا ما عانوا منه سابقا على عبيد آخرين ، فقد انسحقت شخصيتهم لصالح السادة ، وتمثلوا مقلوب شخصية سادتهم ظاهريا فى انتظار اللحظة التى يتمثلوها كاملة هى نفسها على من هم أدنى ، وإذا كان للسادة وسائلهم فى الإخضاع ، فللعبيد وسائلهم فى الاستفادة من وضع الخضوع ، و قس على ذلك الشعوب التى يتم استعمارها ، ومعظم النساء فى المجتمعات الذكورية اللواتى يكن أكثر محافظة على القواعد الاجتماعية التى تقهرهن من كثير من الرجال الذين يقهروهن . ويتجلى هذا الوضع بأوضح ما يكون فى المؤسسات الحكومية والعسكرية القائمة على التنظيم الهرمى ، فمن هم فى منتصف الهرم ما بين قمته العليا وأدنى قاعدته ، يمارسون القهر والسيادة والتسلط والتعالى على من هم أسفل ، فى حين يتحولون فى علاقاتهم بمن هم أعلى إلى مقهورين وخاضعين وكاذبين ومنافقين ومخادعين وهكذا.هذا عن أثر القهر والإخضاع ، أما عن الفقر والحرمان وذل الحاجة للبقاء ، فلا يقل عن أثر القهر ، ومثله مثل الرغبة فى الثروة لتفادى الفقر والحرمان ، بل وزيادتها إن وجدت فرصة ، وذلك للارتفاع درجة أو درجات فى اتجاه أعلى هرم السلطة التى تتيحه زيادة الثروة ، أو الخوف من الهبوط درجة أو درجات فى اتجاه أسفل الهرم لو فقد بعضا من الثروة . فكليهما يتسبب فى تشويه الوعى والنفس والسلوك الإنسانى كل بطريقته ، فمن هنا تتولد معظم الجرائم والشرور التى عرفتها البشرية. و إلا لماذا يسرق البشر و يخونون و يقتلون ويكذبون .. الخ ؟ أليس لتلك الأسباب بشكل مباشر أو غير مباشر .
إن ثمانية ألف عام احتكرت فيهم الطبقات المالكة والحاكمة وسائل إنتاج الثقافة والمعرفة والوعى ، لتضمن بقاء الخاضعين لحكمها ، كحملان وديعة مستسلمة لأقدارها ، لا تتمنى سوى إرضاء من يرعاها ، وتعتبره قمة الشرف ، قد تركت آثارها العميقة على وعى المقهورين والمحرومين ، بما لا يمكن إزالته بمجرد كلمات تقال لتلك الجماهير ، فنحن نتلقى وعينا بكامله من المجتمع ، عبر الأسرة والتعليم والفنون والآداب والمؤسسات الدينية والإعلام وغيرها ، و لا قدرة لدينا على الاختيار والنقد والشك والبحث عن البدائل ، وكلها خاضعة لمن يملك السلطة يوجهها كيفما شاءت مصالحه فى البقاء.
تخلق أجهزة صناعة الوعى السائد من أسرة وتعليم وإعلام وثقافة ودين ، عقول نقلية وتقليدية و متعصبة لما نشأت عليه من ثقافة ، عقول نزعت منها القدرة على الشك والنقد والتمرد ، فلا تعرف سوى التعصب الأعمى للعادات والتقاليد والعقائد والأفكار التى رضعتها مع لبن الأمهات حتى أنها وهى تتمرد على كل هذا لاتفعله إلا على نحو متعصب ونقلى وجامد للفكر الجديد الذى اعتنقته ، ومن هنا عدم التسامح مع أو تفهم كل ما يخالف ذلك . بل والاستعلاء بالجهل بالآخر باعتباره ميزة ، والخوف من المعرفة به باعتبارها خطرة ، ومن هنا يأتى جمود العقل بالرضا بالوضع الراهن أو الفكر الذى تم الاستقرار عليه ، استسلاما له أو خداعا للذات بفضله .
عقول تحكمها العواطف والمشاعر العمياء بأكثر مما يحكمها الواقع وحقائقه، ويسهل عليها الانجذاب وراء الدعاية الديماجوجية و الإثارة العاطفية ، بأكثر مما تتأثر بحديث العلم . فمع أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية أشعل الإعلام المصرى الشارع المصرى بسرعة كما أخمده بسرعة ، وتعاطف العالم مع الفلسطينيين لصور شاهدوها على شاشات التلفاز ، إلا أن التعاطف تحول فى اتجاه آخر بمجرد مشاهدة صور أخرى ، فالإعلام الذى هو إعلان فى الأساس بمعنى أنه ترويج لسلع مختلفة مادية ومعنوية ، هو ساحر الأغلبية ، وموجهها لصالح من يملكوه ، وبعد ذلك مازال البعض يتحدث عن الديمقراطية المزعومة .
فاليساريون التقليديون دائما ما يملئون تحليلاتهم ، بالحديث عن قوى وعلاقات الإنتاج ، والطبقات والصراع بينها ، والثورة والسلطة السياسية ، إتباعا جامدا ومبتذلا ومحدود الأفق للتفسير المادى للتاريخ والمجتمعات ، وهو التفسير الصحيح وإن كان ليس كافيا من وجه نظرى ، إذ ينقصه الاهتمام بالوعى الاجتماعى وصناعة الوعى ، فالبشر ليسوا مجرد حيوانات منتجة و اقتصادية ، وهم حتى حين ينتجون وجودهم المادى ، فأن عامل الوعى والمعرفة يلعب دورا هاما فى إطار هذه العملية ، فبرغم العلاقات الرأسمالية السائدة ، فالشركة اليابانية تدار على نحو مختلف عن الشركة الأمريكية ، لاختلاف العامل الثقافى رغم استمرار القهر والاستغلال جوهريا فى الاثنين ، فإذا كانت المسألة بهذا التبسيط المخل الذى يمارسونه لكانت الثورة الاجتماعية قد أنجزت منذ زمن طويل .
فى لحظات معينة يصعب التنبؤ بها ، تندفع الجماهير المقهورة فى التمرد على السلطة ، تمردا عفويا ، حيث ينفجر بركان الغضب دون هدف واضح ، فكأنما كان هذا الخنوع والرضا واليأس والجمود يخفى وراءه تراثا عفويا عميقا من الإحساس بالقهر والاستغلال والظلم ، والرغبة المكبوتة والمضمرة فى الانفجار ، كانت تنتظر لحظة ما لا نفهمها جيدا و لا يمكن لنا توقعها على نحو دقيق ، ولكنه يكون انفجار أعمى ، بركان يثور على نحو مفاجىء ، ينفس عن كل ما تم كبته لسنوات ، ولكنه ليس بالضرورة قد يهدف لشىء سوى التعبير عن الغضب .
وفى هذا تفسيرات متعددة ، فيقول البعض أن سبب التمرد والثورة هو تدهور أوضاع الجماهير الاقتصادية ، وهو تفسير ضعيف فقد عرف البشر و لآلاف من السنين التضور جوعا وبؤسا وتشردا ، ولم يدفعهم هذا للثورة ، ويقول البعض الآخر أنها التوقعات والآمال المحبطة ، وهو تفسير نفسى لا يمكن التأكد منه علميا ، ويدعى البعض أنه تغير مفاجئ فى الوعى وهو أمر مشكوك فيه حيث لا يمكن أن تتكسر كل آلة الوعى القديمة لدى كل المقهورين ، وتظهر آلة جديدة تدفعهم للثورة بلا مبرر و لا سبب ، واعتقد أن كل هذه الأسباب وغيرها قد تكون صحيحة ، ولكن ليس كل على حدة ، ولكنها تتراكم على مدى زمنى متفاعلة فيما بينها حتى تحدث فعلها ،إلا أن هذا وإن كان كافيا لتغذية التمرد الإنفجارى بشكل عام ، إلا أنه ليس كافيا لإحداث التغير الاجتماعى الذى تحدثه القوى الاجتماعية المنظمة و المرتبطة بوسائل وعلاقات الإنتاج الأكثر تقدما ، وهى ليست بالضرورة وحين تتحرك للتغيير الاجتماعى أن يكون دافعها البؤس أو الأمال المحبطة أو الوعى . وتلك العوامل الانفجارية ليست كافية فى حد ذاتها لتفسير فعل اجتماعى معقد ينتج كمحصلة للعديد من الأسباب المتفاعلة ، وأى ما كانت الأسباب الموضوعية التى تدفع للتمرد و الثورة ، فأنه حدث كثيرا ، و لا يوجد ما يمنع من تكراره عبر التاريخ البشرى ، إلا أنه فى كل مرة لم يؤد إلى التحرر النهائى من الوضع السلطوى ، فدائما ما تحل نخب جديدة بدلا من القديمة فى هرم السلطة مستخدمة جمهور المقهورين الغاضبين كوقود للتغيير ، و كروافع لوصولهم للسلطة ، وإن هذا الفعل نفسه هو القابلة التى أحدثت تطورات اجتماعية فى بعض الأحيان من نمط إنتاج لنمط إنتاج آخر ، وتغير فى شكل العلاقات بين الطبقات ، وكيفية ممارسة النخب الحاكمة للسلطة ، وأيضا وكنتيجة لكل هذا فى أشكال الوعى الاجتماعى السائدة.
و برغم كل ضعف المقهورين الظاهرى نظرا لفقدانهم السلطة ومصادرها ، إلا أن قوتهم الكامنة تتجلى فى لحظات التمرد والثورة ، كونهم منتجى الثروة المادية أساس حياة المجتمع من جانب ، وكونهم يشكلون غالبية السكان من جانب آخر ، كما أن هناك حدودا وشروطا لممارسة السلطة لا يمكن تعديها عند مقاومة السلطة لتمرد الجماهير وثورتها . وكأى صراع يسفر عن منتصر ومهزوم ، يتوقف نجاح أى طرف على مدى قدرته على كسر إرادة الطرف الآخر ، وذلك بتفتيت قوته واستنزافها أو شل فاعليتها ، ومن هنا قد ينجح المقهورين فى إزالة الطبقات الحاكمة ، وقد تنجح السلطة القديمة أحيانا فى الاستمرار بقمع الجماهير أو خداعها ، تاركة الجماهير لدورة جديدة من الخضوع و اليأس ، وتمثل وعى السادة ، ثم التمرد مجددا عندما تتفاعل أسباب التمرد . و المعضلة أن الطبقات المقهورة الآن ، ونظرا لافتقادها الوعى اللاسلطوى ، قد تنجرف أثناء تمردها وراء نخب سياسية ، تمتطى تمردها من أجل أن تصل للسلطة ، وتحكم باسمها وتقمعها ، خادعة إياها بأنها تمثلها ، وأنها ما أتت إلى مقاعد السلطة إلا لتلبي مصالحها ، وقد تنجرف الطبقات المقهورة وراء زعامة ديماجوجية ، تلهب حماسها وتغازل عواطفها مضللة إياها بالأساطير الزائفة والشعارات البراقة ، لكى تستبد بها فى النهاية وتروضها بالعصا و الجزرة . و فى النهاية فأن تذمر تلك الطبقات واحتجاجها لا يعنى دائما إنها على الطريق اللاسلطوى الشيوعى، فأوهام الديمقراطية النيابية ، والاشتراكية الإصلاحية ، و الدولة القومية أو الدينية ، والزعيم الملهم والمستبد العادل ، والتحرر القومى والاستقلال الوطنى ، و الاشتراكية السلطوية ، والفاشية ، والنقابية ، و حتى حلم التحرر الفردى . كلها تتنافس فى سوق الدعاية السياسية ، و الفرق بين مروجيها هو فى تنافسهم الشرس على المستهلكين أى سائر المقهورين ، والذين بواسطتهم يضمنون البقاء فى السلطة ، أو ينجحون فى الوصول إليها على أعناق جماهير المقهورين الذى أورثها تجهيلها وتضليلها المتعمد ، وعيا عميق الجذور لا يعبر عن مصلحتها الحقيقية فى التحرر . وهذا تهديد سيظل مستمرا لأى تمرد أو ثورة قادمة ، لا يمكن تلافيه ، إلا بإحداث تغيير جذرى فى وعى تلك الجماهير .
ومن هنا تأتى مهمة الحركة اللاسلطوية الشيوعية كحركة ثورية منظمة فى أن تتلافى هذا التهديد المقبل ، وبالتالى القدرة على تحويل التمرد العفوى لحركة جماهير واعية ومنظمة قادرة على تحرير نفسها ذاتيا ، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا إذا تحولت الحركة اللاسلطوية الشيوعية من حركة طلائع ثورية إلى حركة الجماهير نفسها ، وممارستها وتنظيمها من ممارسة وتنظيم محدودين بها ، لممارسة وتنظيم الجماهير ذاتها ، ووعيها لوعى الجماهير نفسها.
يختلف اللاسلطويون الشيوعيون جذريا مع النمط اللينينى فى الثورة ، ويعتقدون أن المركزية الديمقراطية كأساس للتنظيم الثورى الممثل للطبقة العاملة ، وفكرة تمثيل الطبقة العاملة نفسها ، ومهمة الحزب فى نقل النظرية والوعى للجماهير ، والإرادية فى الفعل الثورى بعيدا عن فعل الجماهير ، وهى كل ما يميز هذا النمط هى جذور استبداديته و نخبويته. هى أسس الدولة البيروقراطية المتسلطة ، التى لا تعنى بتحرير الجماهير بقدر المحافظة على مميزات بيروقراطيتها الحاكمة .
وعلى العكس من هذا ، يفترض اللاسلطويون الشيوعيون أنه وبالرغم من احتكار النخب الحاكمة لمصادر إنتاج وتوزيع المعرفة و الوعى ، فأن هذا الاحتكار ليس سدا مصمتا ، فهو و أن كان بناء هائل ، إلا أنه ورغم شموخه وصلابته الظاهرة ، فأن له ثغراته التى يمكن أن ينفذ منها أفراد يأتون من شتى الطبقات و الشرائح الاجتماعية المختلفة ، امتلكوا لأسباب متعددة تخصهم القدرة على التمرد على الوعى الرسمى السائد ونقده والشك فيه ، ومن ثم إنتاج وعى ومعرفة جديدة مخالفة لما هو سائد ، هذه الطلائع الثورية يتلخص دورها ومهمتها فى زيادة الثغرات وتوسيعها ، لتنفذ منها قطاعات من الجماهير تتسع باستمرار محولة الثغرات لفجوات ينساب منها الوعى الثورى الجديد بين غالبية الجماهير ليدمر سد الوعى القديم الجاسم على عقولهم .
تلك الطلائع وهى تؤدى مهمتها التاريخية تنتظم جماعيا بنفس قواعد و مبادئ المجتمع اللاسلطوى ، ومهمتها الأساسية هدم سد الوعى السائد نظريا ودعائيا ، مقدمة الوعى الجديد كبديل ثورى حقيقى . وهى فى ذلك تركز على فضح الأيديولوجيات السلطوية التى تقدم كبديل زائف وواقعى للوعى السائد . فدور اللاسلطويون الشيوعيون ومنظماتهم هو كسر الضلع الثالث والأضعف فى مثلث مصادر السلطة وهو المعرفة والوعى . وذلك بإنتاج الوعى البديل ، ونشره بكل الوسائل المتاحة . وهى عملية متعددة الجوانب بتعدد أشكال الوعى من بحث علمى وتحليل نظرى ، ودعاية وتحريض .الخ.
الثورة فى مفهوم اللاسلطويين الشيوعيين ليست انقلابا فى السلطة ، إنها عملية اجتماعية ، تقوم فيها الجماهير المتمردة والمنظمة على النسق اللاسلطوى ، بهدم بنية المجتمع القديم بما فيه السلطة القمعية ، لتبنى على أنقاضه ، مجتمعها الجديد ، وهى عملية تمارس فيها جماهير المقهورين سلطتها الجماعية ، وتبنى تنظيمها من أسفل إلى أعلى ، لتصادر الثروة من حائزيها لتحولها إلى الملكية الجماعية ، وتشل آله العنف بالعصيان المدنى الشامل ، وفى هذه العملية يقوم اللاسلطويون الشيوعيون بدور الإرشاد دون وصاية ولا إدعاء لتمثيل المقهورين أو قيادتهم ، مركزين على فضح الديماجوجين و التسلطيين للجماهير ، ومنعهم من الانحراف بالثورة عن الطريق اللاسلطوى . حتى تكتمل عملية الهدم والبناء ، لينتهى دورهم كجماعة ثورية .
ذكر إنجلز فى إحدى كتاباته أن الثورة هى أكثر الأعمال تسلطا وهذا بلا شك أمر بديهى ، فهى عمل تسلطى وقمعى ، إلا أنه يتم من السواد من الناس فى الحالة اللاسلطوية الشيوعية ، من الجماهير المنظمة وبوعيها غير الزائف ، وليس من قبل نخبة تتحدث باسم الجماهير ، وتدعى تمثيلها ، وتمارس وصايتها عليها ، كما فى النمط التسلطى للثورة . فهناك تفسيران للمرحلة الانتقالية اللازمة ، ما بين المجتمع الرأسمالى والمجتمع الشيوعى.
أولهما السلطوى الذى يفترض أنها دولة ديكتاتورية البروليتاريا الذى يمثلها الحزب الطليعى ، والذى تتركز في يدها كل مصادر السلطة ، والتى لابد وأن تؤول لبيروقراطية شمولية كما حدث فى الدول التى ادعت الاشتراكية .
ثانيهما اللاسلطوي الجماعى الذى يفترض أن المرحلة الانتقالية هى الثورة نفسها باعتبارها عملية تاريخية ممتدة وليست مجرد الانقلاب فى السلطة ، والتى تمارس فيها الجماهير المنظمة سلطتها الجماعية على الأقلية المتسلطة ، التى لا يمكن أن تسلم بامتيازاتها و بسلطاتها ومصادر سلطاتها دون هذا التسلط الجماهيرى الجماعى ، إلا أنه تسلط موقوت بعملية سحب تلك السلطات والامتيازات ، بمصادرة أو شل مصادرها ، و بشل قدرتها على مقاومة الثورة عبر الفعل الجماعى للجماهير الواعية ، وحماية بناء المجتمع الجديد الذى ما إن يتم بناءه ، تنتهى كل سلطة قمعية منفصلة ومتعالية على الجماهير.
وفى الطريق الطويل من نقطة البداية لنقطة النهاية الثورية ،على الطلائع اللاسلطوية أداء مهمتها التاريخية ليس بمجرد إنتاج الوعى ونشره ، ولكن بالانخراط فى كل نشاط يدفع المقهورين القابلين للتنظيم ليفكروا على نحو مختلف ، يدفعهم للتعرف على وعى بديل و لتنظيم أنفسهم على نحو لاسلطوى ، هناك الكثير من النضالات الصغيرة ، التى لابد وأن تتعلم منها الجماهير الثقة بقدرتها الجماعية على الفعل ، وعدم الثقة فى الأيديولوجيات السلطوية التى لا يجب التهاون معها على أى نحو.
إن الطريق اللاسلطوي للثورة ، هو الطريق الذى يشل آلة العنف عندما تواجه الكتلة المتراصة والصلبة لجماهير مصممة على تحقيق أهدافها ، بالعصيان المدنى الشامل و أشكال الاحتجاج السلمى ، وهو ما لا يمكن أمامه أن تفعل آلة العنف فعلها طالما مارسته غالبية المقهورين على نحو متماسك ومنظم ، فبالعصيان المدنى الشامل يتكسر الضلع الثانى من أضلاع السلطة ، والذى يحمى الضلع الأول ، وهو الثروة التى يسهل بعد انهيار أبواق دعايتها ، وشلل حماتها المسلحين مصادرتها. ويكتسب هذا العصيان قيمته فحسب عندما يصنعه المقهورين المرتبطين بأكثر وسائل الإنتاج تقدما .
هذه هى القواعد العامة التى تحكم الممارسة الثورية للاسلطوية، أمميتها الجذرية تمنعها من الاعتراف بالحدود القومية و أوهام التحرر القومى ، وثوريتها الجذرية تمنعها من التعلق بأوهام البرلمانية والإصلاحية والنقابية ، و تحرريتها الجذرية تجعلها ترفض كل تسلط و وصاية على البشر ، و احترامها الجذرى لتفرد الإنسان يجعلها ترفض جذريا سحقه وتذويبه وقمعه وقولبته وبرمجته وقهره ، و شيوعيتها الجذرية تجعلها ترفض الأنانية البورجوزاية ، وتمحور الفرد حول ذاته ومصالحه ، التى هى جوهر المثل السفلى الإنسانية ، ومن ثم تمارس لب المثل العليا الإنسانية القائمة على الجماعية والغيرية بغير ادعاءات . إنها طراز فريد من الحركات الثورية ، ترفض جذريا كل أشكال التلوث البورجوازى ، وتتسق أخلاقياتها وممارستها مع مجتمع المستقبل اللاسلطوي. فتشكل فى المجتمع الحالى أنويه مجتمع المستقبل ، فى علاقاتها وممارستها.
يبقى أن أشير إلى أن البعض من ممارسات بعض اللاسلطويين ، ومواقفهم إزاء الأخلاق لا ترضينى شخصيا ، كما أنى أرفض الفهم المغلوط لقضية الأخلاق من قبل بعض اللاسلطويون ، الأخلاق ضرورة اجتماعية ، ومادمنا نتحدث عن بناء مجتمع ، فلابد أن نفهم أنه لاغنى لهذا المجتمع عن الأخلاق لتحافظ على العلاقات بين أفراده ، فالحرية الفردية المطلقة إمكانية غير متاحة إلا نظريا ، لأن الإنسان حيوان اجتماعى نشأ أصلا عن علاقة اجتماعية بين رجل وامرأة ، والمجتمعات البشرية هى خلف طبيعى لسلف من قطعان من أشباه البشر ، ومن ثم فالأخلاق ضرورة إنسانية أيضا طورتها تلك القطعان كضرورة كى يستمر القطيع . اللاسلطوية الشيوعية لا تقوم فقط على أساس الضرورة المادية لتطور المجتمعات ، وتحقيق الحرية و الإخاء والمساواة فى حدودها القصوى ، وإنما تقوم كذلك على قيم أخلاقية ترفض استغلال الإنسان وقهره وخداعه ، ولا يمكن أن تنفصل الوسائل عن الغايات ، ولا يمكن أن تمارس القهر والاستغلال والخداع ، وتدعى أنك تناضل ضدهم ، وكسر ضلع الوعى البورجوازى يستلزم تكسير قيمه الفردية والأنانية والاستهلاكية والنفعية ، ليس بمجرد الشعارات ، ولكن بالممارسة الفعلية للبديل الثورى.
يبقى أن أشير إلى أن الفهم الملتبس لقضية الحرية ، يجعل العديد من اللاسلطويين يرفعون شعارات زائفة باسم الحرية ، تتناقض جوهريا مع هدف التحرر ، وتخدم استمرار احتكار السلطة ولا تقاومها إن لم ترسخها ، فيرفع البعض شعار حرية تعاطى المخدرات ومن ثم وبالضرورة الاتجار فيها بدلا من أن يناضلوا ضد الخمور والتدخين مثلا ، باعتبارها عوامل مدمرة لذات الفرد ومستعبدة لحريته وإرادته الحرة ، فأى حرية فى أن تكون مدمن للمخدرات أو الخمور ،ومن ثم يمكن السيطرة عليك بسبب سيطرة احتياجك لها عليك ، ولاشك أن هذه اللاسلطوية الزائفة تهدف لسيطرة تجار المخدرات على المدمنين بما يتعارض مع الهدف اللاسلطوي ، فاللاسلطوية الشيوعية يجب أن تقف ضد حرية تدمير الذات التى يروج لها البعض ، فالحرية المطلقة هى عبودية من نوع جديد للرغبة واللذة و لا تعنى تحرر حقيقى للإنسان .
خيالية القبول بالواقع ، وواقعية السعى لتغييره
سيتهمنا الكثيرين بالخيالية ، وقد نتشكك نحن أيضا فى مدى واقعيتنا ، فما نسعى إليه من أهداف يبدو بعيد المنال ، إن لم يبدو مستحيلا ، وفى الطريق إليها تتراص العقبات والعراقيل ، ومن ثم تبدو جبال الواقع عصية على التدمير ، ومن هنا يترسخ فى العقول منطق الرضوخ للواقع ، والقبول بالممكن والمتاح .إنه منطق لا يعترف بأن العمل الدؤوب الذى لا يعرف الكلل و اليأس ، يرى أن الجبال العالية من الممكن تدميرها بالتفتيت المستمر والمتواتر ، وهم لا يفهمون أن قطرات المطر الضعيفة حين تتساقط بانتظام مستمر تؤدى لتفتيت الصخور القوية ، وهو ما لا يمكن أن يفعله الجلوس تحت سفحها فى انتظار معجزة تفتيتها .
فأيهما أكثر خيالية حين نعرف أمراضنا، وحين نعرف أسبابها وعلاجها ، وحين نعرف أننا عاجزين حاليا عن العلاج ، نلجأ للمسكنات أو أن ننتظر الموت ، أو أن نحاول جاهدين الوصول للعلاج حتى لو استغرق هذا وقتا وجهدا ، ونحن ننتظر الحياة .
فأيهما الأكثر خيالية أن نظن أن الرأسمالية والأيديولوجيات السلطوية المختلفة المعبرة عنها ، ولأنها تبدو واقعية فى الظاهر و لأول وهلة، كفيلة بتحرير البشرية ومنحها العدالة والسلام والأمن والحرية والرفاهية ، أو أنها قادرة على إنقاذ البشرية من أخطار مؤكدة تسببت فيها الرأسمالية فى تطوراتها الأخيرة ، وأصبحت عاجزة على أن تقدم حلولها الإصلاحية تسكينا لهذه الأخطار . أم أن نسعى جاهدين لقلب هذا الواقع رأسا على عقب ، وهى العملية التى أصبحت ملحة للغاية .
فواقعنا المعاصر يواجه ظرفا محرجا يضعه أمام خيارين لا ثالث لهما ، إما اللاسلطوية الشيوعية أو البربرية . فالتهميش المطرد و الواسع النطاق لقطاعات ساحقة من البشرية ، والاتساع المطرد فى مستويات البطالة الهيكلية ، وتدمير البيئة مما يهدد الحياة على كوكب الأرض ، و التفاوتات المتسعة باطراد بين مستويات المعيشة والثروة والتقدم ، تقسم البشر لقسمين ، قلة مترفة وغالبية بائسة ، فضلا عن السيطرة غير المسبوقة لوسائل الميديا الحديثة بما تروجه من ثقافة استهلاكية وسطحية ، والتى تم بها غسل وقولبة وتخدير وتسطيح وتشويه عقول الجماهير و إدراكها ، مما أدى لاستفحال الطابع المبتذل للديمقراطية للبرلمانية ، التى تحولت لمهرجان إعلانى لا غير، نازعة آخر أثواب احترامها . فى نفس الوقت و مع كل هذه الظروف السيئة تتصاعد الفاشيات المختلفة ، و الأصوليات الدينية ، والحركات العنصرية ، وينطوى اليسار السلطوى بكل تلاوينه الإصلاحية والثورية ، مستسلما للرأسمالية الفجة والوحشية ، مستسلما لواقع عجز عن فهمه وتغييره ، متشبثا بواقعية زائفة ، هى فى حقيقتها الخيالية نفسها فى ثوب الواقعية . ذلك لأنه لا يرى إلا هدف السلطة التى أصبحت بعيدة المنال ، والتى أمام مقتضياتها يركع فى خشوع لعلها تقبله فى معيتها حتى ولو حساب مبادئه ، متنازلا باستمرار أمام مذبحها عن كل الذى كان يناضل من أجله .محتجا بالواقعية والمتاح والممكن .
أن من ينظرون للواقع بهذه الطريقة قصيرة النظر ، لا يفهمون كيف يتغير الواقع ، الذى لا يتغير فقط تدريجيا و على نحو كمي و غير محسوس ، ولكنه يتغير نوعيا أيضا وعلى نحو فجائى وملموس ، وبما لا يمكن أن يتوقعه أحد . ولما كان هذا التغير يستند لأسباب موضوعية كل ما علينا أن نكون على استعداد كامل لمواجهتها لأنه لا يد لأحد فيها ، وظروف ذاتية تحتاج لجهد بشرى من نوع خاص هو ما يمكن أن نؤديه ، وفق شروطه لو أردنا النجاح ، فأن كل ما علينا أن نؤدى عملنا لنصبح على استعداد للحظة التغيير .
فمن يستندون لواقعيتهم المزعومة مفضلين الممكن والمتاح رغم زيفه وعجزه ، لا يفهمون كيف يتغير التاريخ على نحو جذرى ، وعلى نحو لا يدركه حتى الحالمون .
فمن كان يتوقع أو يدرك أو حتى يحلم قبل عام571 ميلادية ، أنه وفى مدينة صحراوية ، ولد صبى يتيم ، أصبح راعى غنم فقير ثم تاجرا فيما بعد ، وفى الأربعين من عمره صار نبيا ، و مؤسسا لديانة كبرى ، و مكافحا بيئة قاومته بشراسة وعنف على مدى أكثر من عشرين عام ، وفى الثالثة والخمسين مؤسسا لدولة ، ولم يكن عام 640 قد جاء بعد حتى أصبحت دولته أساس إمبراطورية عظمى على أنقاض إمبراطوريتين كبيرتين خلال خمسة عشر سنة من تأسيسها ، أى خلال سبعين عاما فحسب من مولده ، و لتكون خلافته حضارة عظمى هى الحضارة الإسلامية ، والتى تأسست نواتها على الديانة التى أسسها.
من كان يتوقع أو يدرك أو حتى يحلم ، قبل عام 1848 و حين صدر البيان الشيوعى ، ليفتتح الصفحة الماركسية فى التاريخ البشرى ، بكل ما تعنيه الماركسية من انقلاب جذرى سواء فى العلوم الاجتماعية أو الحركات السياسية ، أن يأتى عام 1917 ليرفع العمال الروس رايتها فى ثورة من أكبر الثورات فى العالم ، هؤلاء العمال الذين كان آبائهم و أجدادهم مجرد أقنان حتى عام 1861 ، فى ظل دولة كانت الأسوأ فى أوربا من حيث الاستبداد والرجعية والتخلف . فهل تعامل الثوريين الروس فى أوائل القرن العشرين ، وحتى اسقطوا العرش القيصرى العتيد فى 1917، بنفس منطق الواقعية الزائف، أم بمنطق مختلف ساعدهم على الانتصار ، بصرف النظر على نوعية الانتصار ، ولم تكن الثورة الروسية فقط من حملت راية الماركسية فقد حملتها ثورات وحركات كثيرة خلال القرن العشرين ، ولم تسقط الماركسية بسقوط الدول التى حملت رايتها ، وإنما سقط تفسيرها السلطوى واللينينى فحسب ، أما ما رسخه الجهد الأسطورى للماركسية و النضال الملحمى للماركسيين سواء فى ميدان العلوم الاجتماعية والحركات الثورية ، فما زال قويا ومؤثرا و مواليا نجاحه. ومازال الحلم اللاسلطوى الشيوعى قويا برغم ما يواجهه من صعوبات . والشيوعية اللاسلطوية وأن كانت توارت بفعل الإصلاحية و اللينينية و الفاشية ، فقد بعثت من موتها من جديد ، لتواجه واقعا ينتظرها بالفعل ، و ما عليها إلا أن تتعلم من التاريخ كيف يتغير لتغيره ، وما هو دورها بالفعل لإحداث هذا التغيير .
أصبح اللاسلطويون لديهم الآن إمكانية مذهلة لكسر احتكار الرأسمالية لوسائل إنتاج ونشر الوعى ، و ذلك عبر ثورة الاتصالات الحديثة و الإنترنت ، و التى تزداد إمكانيتها المذهلة باطراد سريع ، وتنتشر بأسرع مما انتشرت أى وسائل أخرى من وسائل الاتصال والمعرفة ، والتى سيكون لها أبلغ الأثر على توحيد اللاسلطويون الشيوعيين عبر العالم وانتشار أفكارهم لو أجادوا استخدامها بعد سنوات قليلة عندما تصبح الوسيلة الأساسية لنشر المعرفة والمعلومات على نحو رخيص و ديمقراطى وسهل . و لو ربطوا بين أفكارهم وقضايا الواقع الساخنة ، وطرحوا رؤيتهم كحل جذرى لتلك القضايا على نحو لا يعرف المساومة .ففى كل قضية من البطالة إلى البيئة ، لا يجوز إلا طرح البرنامج اللاسلطوى كحل وحيد لكل القضايا ، وفى نفس الوقت فضح كل الحلول الإصلاحية والسلطوية ، وكشف الأوهام البرلمانية ، وفى كل موقف علينا أن نوضح أن الحل بيد الجماهير المنظمة وصاحبة المصلحة ، لا بيد أى حكومة أو منظمة ما ، و لا بيد أى سلطة أو حزب فلسنا بحاجة لزعماء ملهمين كما لسنا بحاجة للسادة والألهة ، فعلينا أن نثق بمبادرة الناس وأن نشجعها ، فلم يعلم أحد الجماهير فى روسيا أن يشكلوا السوفيتات كشكل لسلطتهم الجماعية قبل أن تتبقرط بواسطة البلاشفة ، الذين حولوها كشكل لممارسة سلطتهم الديكتاتورية .ولم يعلم أحد العمال الإيطاليين أن يحتلوا المصانع فى 1920 ، ولم يعلم أحد عمال باريس أن يصنعوا الكوميونة فى 1871 بقدر ما تعلم ماركس نفسه من تجربة الكوميونة معالم الثورة القادمة ، فالثورة هى علاقة جدلية بين حركة الجماهير العفوية ، والأفكار الثورية ، و دور اللاسلطويون هو التعبير عن هذه الأفكار ونشرها بين الجماهير وتقدم صفوفها فى كل عمل احتجاجى أو ثورى.
ويرجع هذا التيار لجذور فكرية قديمة إلى ما قبل العصور الحديثة ، تعلى من قيمة الحرية الإنسانية ، وترفض السلطة القمعية وتنقدها ، وتعتبر الدولة كمؤسسة فى حد ذاتها مصدر كل شر ، ومصدر القهر الواقع على الإنسان ، وسبب استغلاله وإفساده وتشويهه ، وتبشر بعالم يخلو من هذا القهر ، وذاك الاستغلال ، وبإمكانية أن يحيا البشر أحرارا دون هذه الدولة المتعالية عليهم و المتسلطة عليهم أيا ما كان نظامها. ويرى البعض أن هذا التيار هو الامتداد الأكثر جذرية لفكر عصر التنوير الذى سبق الثورة الفرنسية ، بشعـاراتها الثـلاث ( الحرية ، و الإخاء ، والمساواة ) كما يرى البعض أن هناك جذورا لاسلطوية فى كل الثقافات عبر التاريخ.
وتنقسم جذور هذا التيار فى العصر الحديث لثلاث منابع بدأت فى القرنين الثامن و التاسع عشر ، اللاسلطوية الفردية ويمثلها الفيلسوف الإنجليزى جودوين والمفكر الألمانى شترينر ، وهى تقوم على الحرية المطلقة للفرد إزاء أى سلطة أو جماعة ..واللاسلطوية الجماعية أو الشيوعية ويمثلها الثوريان الروسيان باكونين و كروبوتكين والمفكر الفرنسى برودون ، و هى تنشد مجتمع تتعاظم فيه الحرية الفردية ، و تنتفى فيه السلطة القمعية ، فى إطار جماعى منظم تعاونيا ، باعتبار الإنسان فى النهاية حيوان اجتماعى ..واللاسلطوية المسيحية ويمثلها الروائى الروسى الشهير تولوستوى الذى استلهم من المسيحية رؤى تحررية و لا سلطوية.كما ظهر مؤخرا من تأثر بأفكار هذا التيار من المفكريين الإسلاميين على قلتهم النادرة .
وبدأ من منتصف القرن التاسع عشر ، ظهرت اللاسلطوية الجماعية أو الشيوعية كتيار قوى فى العديد من البلدان الأوربية و الأمريكية ، شاركت فى الأممية الأولى ، واشتبكت فكريا وتنظيميا مع الماركسية ، وخرج ممثلوها ليشكلوا أممية أخرى ، وشارك ممثلوها فى العديد من الحركات الثورية فى أسبانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا حتى منتصف الثلاثينات من القرن العشرين ، وخلال ذلك ظهرت فى داخل هذا التيار اللاسلطوية النقابية فى فرنسا ، والتى بلغت أوجها فى أوائل القرن العشرين ، وظهر اتجاه ماركسي لا سلطوي فى مواجهة التفسير اللينينى السلطوى للماركسية ، ويمثله كل من روزا لوكسمبورج و بانيكوك ، والمعروف الآن بشيوعية المجالس ، وهم الأقرب للماركسية الأصيلة من كل التيارات الماركسية الأخرى.
وما أن انتصفت ثلاثينات القرن العشرين حتى انتهت كل هذه التيارات لفترة كمون طويلة ، حتى اعتقد البعض أنها انتهت تماما ، وأصبحت مجرد جزء من التاريخ ، ومجرد تراث من الأفكار . ومع منتصف الخمسينات من القرن العشرين بدأ جهد نظرى لإحيائها ، حيث ظهرت كتابات جديدة لمفكرين جدد تعتمد على نقد الكتابات والممارسات السابقة ، وتحاول استشفاف رؤى جديدة تلتزم بالإطار العام اللاسلطوى والتحررى ، وفى منتصف الستينات ومع ظهور اليسار الجديد ، خرج هذا التيار من كمونه ، واخذ ينتشر مجددا فى العديد من بلدان غرب أوروبا وأمريكا الشمالية ، ومع سقوط الدول التى تدعى بالاشتراكية فى أواخر الثمانينات ، و سقوط اللينينية أحزابا وأفكارا مثلما سقطت الاشتراكيات الديمقراطية والإصلاحية، و زيادة التشكك فى عبادة الدولة ، واستمرار نقد كل من النظرية والممارسة السلطويتين ، ونقد الأيديولوجيات التسلطية والقومية ، أخذ هذا التيار يكسب مواقع متزايدة فى أوروبا واستراليا والأمريكيتين وشرق آسيا ، وبعض بلدان الشرق الأوسط وجنوب أفريقيا ، وفى السنوات الأخيرة شارك هذا الاتجاه فى الكثير من الأحداث ، و بفضل ثورة الاتصالات الأخيرة أخذ ينتظم عالميا ، ويزداد تأثيره وضوحا ، وعرف مفكرين جدد أشهرهم عالم اللغويات الشهير ناعوم شومسكى، سام دوجلوف ودانيال جرين وغيرهم …ويدخل تحت هذا التيار مدارس عديدة تتفق فى الإطار العام ، وتختلف فيما بينها فى التفاصيل ، فهناك شيوعية المجالس ، والشيوعية التحررية ، والماركسية الليبرالية ، و الاستقلالية ، والمواقفية ، و اللاسلطوية النقابية ، المنبرية ..الخ .
وسأحاول فيما يلى شرح الإطار العام لهذا التيار ، أهدافه و وممارسته ، كما أفهمه . فاللاسلطوية ليست مذهبا جامدا ، ولا تعرف النصوص المقدسة ، ورموزها من المفكرين مجرد مجتهدين لا أنبياء ، ولا قداسة لهم ولا لنصوصهم ، ومن ثم يقبل هذا التيار النقد والتطوير داخل إطار مبادئه العامة.
الهدف
أن يكون لنا هدفا نسعى إليه لا يعنى أن نكون وبالضرورة خياليين ، ومن ثم فالبحث الإنسانى المشروع عن تنظيم اجتماعى يقوم على أساس التعاون الاختيارى الحر بين أفراد المجتمع لتلبية احتياجاتهم المشتركة ، وبشرط أن تتعاظم فيه الحرية الإنسانية ، وتختفى فيه السلطة القمعية ، ليس حلما خياليا مهما ظهر لنا من صعوبات تحقيقه على أرض الواقع الذى تجذم حقائقه الصلبة باستحالة تحققه حتى الآن ، فلهذا الهدف تاريخ طويل بطول التاريخ البشرى المكتوب كله ، ولطالما حلم البشر بالحرية أفرادا و جماعات ، وناضلوا من أجل ما حلموا به ، وبرغم اتهامهم أحيانا بالخيالية ، فقد أحرزوا تحقيق جزئى للحلم عبر أشكال متنوعة من الانتصارات والهزائم ، ومن التقدم والتراجع ، ومن التجارب والأفكار ، وهو ما يلخص جوهر الحياة الإنسانية بأسرها ، فالبشر كانوا ومازالوا و سيظلون يحلمون بتحررهم الحقيقي ، الذى يعنى فى جوهره سيطرتهم على ظروف حياتهم ، وتعظيم قدرتهم على اتخاذ ما يعنيهم من قرارات ، وأن يعيشوا وفق ما يقرروه لا ما يقرره غيرهم ، وتعظيم قدراتهم على الاختيار من بين البدائل المختلفة التى تطرح عليهم خلال مسار حياتهم . وإذا كان البشر لابد أولا أن يوفروا احتياجاتهم المختلفة عبر الإنتاج المادى الذى يشكل أساس وجودهم وتطورهم ، فلا شك أيضا فى أن تطوير قدراتهم الإنتاجية بالسيطرة على الطبيعة وتحويلها لما يشبع احتياجاتهم ، مرتبط كذلك بالتحرر من بعض قيود الطبيعة التى تكبلهم ، فإذ ما أعاقتهم البحار عن عبورها اخترعوا السفن ، وإذا ما قيدتهم الجاذبية عن الطيران اخترعوا الطائرات ، وبأمثال تلك المخترعات لم يستطيعوا التحرر فحسب من القيود الطبيعية على حريتهم فى الانتقال ، بل ازدادت قدرتهم الإنتاجية كما ونوعا وحققوا كل ما حققوه من تقدم. وعلى مستوى التاريخ الاجتماعى كانت الثورات الاجتماعية تهدف دائما إلى تحرير المقهورين من تسلط من يملكون السلطة ، وهم وإن كانوا لم يحققوا حتى الآن التحرر الكامل من التسلط المتعالى عليهم ، الخفى منه والظاهر ، والمخادع منه والصريح ، إلا أنهم وعبر التاريخ الطويل قد حققوا ، وعلى نحو تدريجى المزيد من الحريات التى ما كان يحلم بها أجدادهم ، إلا أن ما تحقق لم يبلغ بعد الهدف المنشود الذى هو جوهر الوجود البشرى ، والذى يعطيه معناه ومبرره . فالعبودية مجرد حياة حيوانية ،لا ترقى لمستوى الحياة البشرية . وقديما اعتبر الرومان العبد مجرد آلة ناطقة مجردة من بشريتها.
ومن هنا فالهدف السالف الذكر ليس اختراعا بشريا ، وليس عالم مثالى سابق الإعداد علينا تحقيقه ، ولا هو مجرد مذهب جامد ، ولا مخطط من قبيل الهندسة الاجتماعية ، ولكنه هدف طبيعى للبشر يفسر تطورهم على كافة المستويات ، ولكن لما كان الإنسان ، ما هو إلا ظاهرة طبيعية معقدة للغاية هى إنتاج لمجتمع أكثر تعقدا ، ومن ثم لا يسهل فهمهما ، فى وجودهما وتطورهما ، فإن هذا الهدف الطبيعى يأخذ مسارات معقدة فى دفع التاريخ البشرى ، ويتجلى فى أشكال متعددة ربما لا يسهل الربط بينها وبين هذا الهدف ، أو ذاك النزوع لو نظرنا فحسب من سطح الأشياء لا من عمقها أو أن يقتربوا منه وكأنهم يبتعدون عنه أو على العكس .
فالمخترعين الذين ساعدوا البشر على تحقيق السيطرة المتزايدة على الطبيعة ، ومن ثم زيادة تقدمهم ، والثوار الذين هدموا مجتمعات ليقيموا مجتمعـات أخرى بديلة أكثر حرية ، لم يربطوا بالطبع بين ما فعلوه وبين الهدف اللاسلطوى ، وأن كانوا قد ساعدوا على الاقتراب من تحقيقه ، وقد أدعى بعضهم أحيانا أنهم ينشدوه ،وسعى البعض إليه ، إلا أنهم جميعا فشلوا فى الوصول إلى ما نشدوه.
أن ما يعوق تحقق الهدف اللاسلطوى على أرض الواقع ، هو أن المجتمعات البشرية منذ نحو ثمانية ألف عام ، وعندما عرفت ولأول مرة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ، ومن ثم الانقسام إلى طبقات مالكة ، وغير مالكة ، عرفوا شكل الدولة كتنظيم اجتماعى منفصل عنهم ليدافع عن مصلحة من يملكون ضد من لا يملكون ،الأمر الذى يتم باحتكار الدولة لمصادر العنف والقهر المسلح ، و من هنا عرفوا الانقسام بين أقلية تحتكر السلطة ، وأغلبية محرومة من السلطة . ومحتكرى السلطة يمتلكون أو يسيطرون على مصادرها ، و تلك المصادر هى الأساس المادى للسلطة والمشروعية ، فهى من تعطى الشرعية لمن يملكها وتحرمها من لا يملكها . و تتغلف السلطة دائما وراء ادعاءات مثالية مضللة كتمثيل الشعب أو الأمة أو العقل أو الطبقة أو القومية أو الدين ..الخ ، وما هى سوى مطلقات مجردة ومثالية وظيفتها الاجتماعية الوحيدة ، مجرد تبرير السلطة التى يمارسها فعليا وواقعيا أفراد ونخب ومؤسسات لا يحق لها تمثيل أحد ، سواء من من تحكمهم ، أو من تدعى استنادها لمرجعيتهم ، هم أفراد و نخب ومؤسسات اكتسبوا الشرعية ، ومن ثم السلطة لمجرد سيطرتهم على مصادرها المادية لا لأفضلية يتميزون بها على المحكومين.
ومصادر السلطة المادية هى :-
أولا:_ الثروة بما تعنيه من كل وسائل الإنتاج ، فمن يملكها أو يسيطر عليها يملك شراء قوة العمل واستغلالها لزيادة ثروته على حسابها ، والسيطرة عليها بالتحكم فى شروط حياتها وظروف عملها ، سواء أكانت قوة العمل هذه عبيدا أم أقنان أم عمال ، فالمحرومين من الثروة لا يملكون إلا الرضوخ لملاك الثروة من أجل ضمان بقائهم على قيد الحياة ، فسواء كنت مملوكا كعبد لمالك الثروة ، أو مضطرا كعامل للتنازل عن جزء من وقتك وحريتك وجهدك فقط لصالحه ، فأنت مجبر على الرضوخ لإرادته لأنه يملك وسيلة بقاءك فى الوجود ، فالملكية الخاصة للثروات حولت الأغلبية البشرية لسلع تباع وتشترى فى الأسواق لمن يدفع الثمن ، سواء على نحو كامل ومطلـق أو على نحو جزئى ونسبى ، وقد فقدت تلك الأغلبية حريتها لصالح من يملكون ، وليس ذلك فحسب ، فهؤلاء القادرين على احتكار وسائل العنف والمعرفة لقهر الآخرين هم أنفسهم مالكى و حائزى الثروة ، أو المسيطرين عليها. وهؤلاء القادرين على إملاء رغباتهم على الساسة والبيروقراطيين هم ملاك الثروة . فالدولة دائما هى الجهاز التنفيذى لملاك الثروة بكل ما تملكه من احتكار وسائل العنف والمعرفة.
ثانيا:- القوة بما تعنيه من وسائل العنف المسلح ، فمن يملكها أو يسيطر عليها قادر على إجبار من لا يملكونها على تنفيذ إرادته ، وقادر بواسطتها على الاستئثار ببعض أو كل الثروة بحجة حماية المجتمع من المجتمعات الأخرى ، أو مالكى الثروة من المحرومين منها ، فمن لا يملكون وسائل العنف مجبرين على التسليم بسيادة من يملكونها وتسلطهم ، والتنازل عن بعض أو كل نصيبهم فى الثروة مقابل تلك الحماية ، ومقابل استمرارهم فى الحياة . ومن يتمرد فعليه أن يمتلك نفس وسائل العنف ، ويستخدمها بكفاءة أكثر لو شاء الانتصار ، والذى إن تحقق له الانتصار ، اكتسب مصدر السلطة وشرعيتها ، وفرض إرادته على المهزوم .
فالذين يحاولون القيام بانقلاب عسكرى يشرعون فى جريمة مخالفة للقانون والشرعية القديمة ، وفى حالة فشلهم فسيقدمون للمحاكمة باعتبارهم مجرمين ومنتهكين للشرعية ومعادين للسلطة الشرعية ، وبمجرد نجاحهم فى ارتكاب جريمتهم ، يكتسبون السلطة والشرعية ويتحولون من مشروع مجرمين لثوار و لسادة و قادة ومصدر للشرعية ، ويقدمون للمحاكمة كل من يتمرد على سلطتهم باسم شرعيتهم الجديدة . فى حين يفقد أصحاب الشرعية السابقون شرعيتهم بمجرد هزيمتهم . فالحقيقـة العارية تقول أن بعد ثمانية ألف عام من الخروج من الغابة ، ومن ثم التمدين والتحضر فما زال البشر يحيون وفق قوانين الغابة ، وأن تهذبت شكلا ، فما زالت القوة مصدر الحق والشرعية ،ومازالت العلاقات البشرية هى بين وحوش تملك القوة وفرائس تفتقدها .
ثالثا:-المعرفة بكل ما تعنيه من وعى اجتماعى كالعلوم والفنون والآداب والفلسفات والأفكار والقوانين والأيديولوجيات هى أحد مصادر السلطة ، والتى تتيح لمن يملكها ، السيطرة والتحكم فيمن يفتقرون إليها ، ولما كانت هذه المعرفة هى إنتاج اجتماعى ، فأن قوة العمل التى تنتجها هى الشرائح الاجتماعية المثقفة ، ورغم تميزها الاجتماعى نظرا لطبيعة ما تنتجه ، إلا أنها فى النهاية وبرغم كل ما يميز أفرادها ظاهريا من بريق اجتماعى ومستوى معيشى مرتفع ، خاضعة لسيطرة وتحكم من يملكون أو يسيطرون على الثروة والقوة ، وحتى من يتمرد من هذه الشرائح ، فأنه معرض للحرمان من الثروة ، وقهر القوة وعنفها . ومن ثم فمشاركة هؤلاء فى السلطة مرهون فحسب برضاء من يحتكرون الثروة والعنف ، وبواسطة ما تملكه نخب السلطة من المعرفة ، ووسائل إنتاجها تتحكم فيمن لا يملكون أى من الثروة والقوة والمعرفة ، فعقول البشر هى صناعة التربية والتعليم والدعاية والإعلام والفنون والآداب ومؤسسات الدين ، فمن يملك تلك الوسائل يملك تلك العقول إلا من استطاع التمرد عليها ، من منتجى ومستهلكى المعرفة ، ذلك التمرد مشروط بدوره بشروط ذاتية وموضوعية تدفع القلة إليه فى اللحظات العادية ،والتى يكون لديها التكوين النفسى والعقلى و الشجاعة والاستعداد لدفع ثمن التمرد .
وتتسع هذه القلة لتتحول لأغلبية فى لحظات التمرد والثورة . ومن زاوية أخرى فالمعلومات الضرورية لكى تصدر حكما صحيحا لاتخاذ قرار ما ، ومن ثم يكون لديك القدرة الفعلية على المشاركة فى السلطة ، ليست متاحة إلا لمن يحوزون على السلطة فعليا ، فاحتكار النخب الحاكمة لمثل هذه المعلومات يتيح لها استمرار احتكار السلطة لأنها تحتكر المعلومات التى تؤهلها لاتخاذ القرارات ، ومن ثم لا تسمح بإتاحتها للجميع لاعتبارات الأمن الذى هو فى حقيقته أمن السلطة والنخب التى تمارسها، والطبقات التى تجسد مصالحها تلك النخب .
فطبقات القاهرين التى تمارس السلطة القمعية بالسيطرة على وسائلها ، ليست بأفضل من طبقات المقهورين التى تمارس السلطة عليها ، فتلك القلة من الملاك سواء أكانوا إقطاعيين أو رأسماليين والساسة و العسكريين والبيروقراطيين من محتكرى السلطة ، ليسوا بالأفضل على أى نحو من الأغلبية المحرومة من السلطة الفعلية ، حتى يبرروا تحكمهم فيها ، وذلك باتخاذ القرارات التى تمس حياتها فى حين أنها مغلوبة على أمرها قهرا و خداعا وجهلا واضطرار.
وهاكم التاريخ البشرى بأسره ليبرهن لكم بعدد وقائعه و أحداثه على كم هى فاسدة وغبية وجاهلة وحمقاء وظالمة تلك الطبقات القاهرة عبر التاريخ ، والتى طالما ادعت نزاهتها وذكائها وعلمها وحكمتها وعدالتها أبواق الدعاية من منتجى المعرفة والفنون والآداب ، تلك القلة التى كم كيل لها من المديح ، ولاقت من الاحترام والتقديس والعبادة ما لا تستحقه ، وهى فى غالبيتها وجوهرها مجموعات من البلطجية و المجرمين والدجالين والسفاحين ، فالفرق بين قنبلتى ترومان الذريتين و هولوكست هتلر ، هو الفرق بين شرف جريمة المنتصر وعار جريمة المهزوم ! .
أليسا وأمثالهما مجرد زوائد طفيلية تمتص قوى المنتجين الفعلين للثروة والوعى الاجتماعى لمصالحها الأنانية ، فكم أهدرت طبقات القاهرين من موارد ومن إمكانيات للتطور ولرفاهية الأغلبية لصالح أهواءها ضيقة الأفق ، وكم من جرائم ارتكبتها لتحافظ على مركزها ونفوذها وامتيازاتها واستغلالها لتلك الأغلبية ، وكم ما سببته أنانيتها الوحشية من مآسى و أهوال للأغلبية المغلوبة على أمرها ، وكل التاريخ المكتوب لا يبرهن وعلى أى نحو على صحة ما تدعيه من أنها تعبر عن المصلحة العامة ، بل على عكسه تماما ، فلمصلحة من كانت كل تلك الحروب التى شهدتها البشرية ومات وجرح وأسر فيها بلايين البشر ، ولمصلحة من دمرت مدن وقرى وتمت تسويتها بالأرض ، ولمصلحة من لوثت أنهار وبحيرات و بورت حقول وحرقت غابات ومراعى بما لا يمكن حصره ، ؟ ولمصلحة من أخذ بلايين البشر الفقراء والمقهورين فى تشييد المعابد الهائلة ، والقلاع الرهيبة ،والأهرامات الشامخة ، والأسوار العظيمة ، والقصور المنيفة ، وخلال آلاف السنين فى حين كانوا يعيشون فى أكواخ الطين والبوص ، ولمصلحة من لوثت البيئة حتى أصبح الكوكب الذى نعيش عليه مهدد بأن يصبح غير صالح للحياة ؟، ولمصلحة من يستنفذ سباق التسلح الثروة الطبيعية والبشرية فى حين يتلظى الملايين تشردا ا؟، ولمصلحة من ترمى المحاصيل فى البحار للمحافظة على سعرها فى حين يتضور الملايين جوعا ؟ أليس كل هذا لمصلحة أقلية أنانية وجشعة ولا أخلاقية فى حقيقتها برغم ما تتشدق به من قيم عليا وتتغلف فيه من إدعاءات عقلانية ، فأنها لا ترى أبعد من قدميها. لا ترى أنها مثل ضحاياها فقدت حريتها وأمنها بمجرد أن تسلطت عليهم سواء أكانت إقطاعية أم بيروقراطية أم رأسمالية .
وهل تكفى الضرورة الاجتماعية التى تحكم التطور الاجتماعى ، لتبرير أو تفسير كل تلك الحماقات التى لا علاقة لها بتطوير قوى الإنتاج باعتباره السبب الجوهرى للتقدم الاجتماعى ؟.فما هو الذى يساعد على تطوير قوى الإنتاج باعتبارها قاطرة التطور الاجتماعى ؟ سوء إدارتها و تدميرها وتبذيرها وإهدارها ، أم الاختراع والإبداع والعلم والعمل البشرى .من ساعد فعلا على تمدين البشرية وتقدمها ؟ إبادة الهنود الحمر واسترقاق الزنوج أم قوة الإبداع البشرى ذهنيا لدى العلماء والمخترعين ، وبدنيا لدى العمال والمهنيين والحرفيين .
فالسلطة ومصادرها المختلفة ليست مفسدة لمن يملكها ويحوزها ويسيطر عليها فقط ، فهى مفسدة أيضا للمحرومين منها ، فالغالبية الساحقة من الشرور والجرائم الإنسانية على جانبى المجتمع المنقسم على نفسه لطبقات ، هى الابنة الشرعية لهذا الانقسام الناتج عن احتكار الأقلية للسلطة ومصادرها ، فالتكالب على الثروة والخوف عليها والرغبة فى زيادتها من جانب ، مثلما الحرمان منها من جانب آخر سواء بسواء ، يشوه كلا الطرفين المالك والمحروم ، ويطلق كل الشرور والآثام التى تدور فى غالبها بهدف الحصول على الثروة ، كما يشوه العنف القاهر والمقهور ، المنتصر والمهزوم ، الجلاد والضحية، ما بين غرور القوة وزهوها ، وانسحاق الضعف وخوفه ، يتولد أسوء ما فى البشر .
وقد حاولت البشرية عبر تاريخها المكتوب بالوعظ والفلسفة والقانون والدين والتربية أن تصلح ما أفسدته السلطة ومصادرها ، وما فلحت فى ذلك ولن تفلح ما دامت تصر على معالجة أعراض المرض لا أصله ، فالشر مثلما الخير ليس فطرة بشرية جبل عليها البشر ، و إنما هو صناعة اجتماعية ، فالبشر أبناء ظروفهم وبيئتهم الاجتماعية . حتى أن بوذا نفسه كان يرى أن منهجه الفلسفى والأخلاقى الذى يهدف لتخليص الحياة البشرية من الألم والوصول بها إلى السعادة الكاملة ، يستلزم نظام اجتماعى يساعد البشر على اتباعه ، فكل وصايا بوذا عن عدم إيذاء أى كائن حى ورفض العنف ، وعن عدم التكالب الوحشى على الثروة وملذات الحياة ، لم تمنع البوذيين عن مخالفتها وارتكاب كل الجرائم التى تخالف هذا المذهب فى أصوله ، لأنهم لم يعرفوا نظاما اجتماعيا يساعدهم على ذلك ، وقد تحولت البوذية فى النهاية لمؤسسة كهنوتية فى خدمة محتكرى السلطة لتبرر تسلطهم وقهرهم واستغلالهم للأغلبية المنشغلة بالخرافات التى أبعدتهم عن جوهر الفكرة البوذية الأصيلة التى لا علاقة لها فى الحقيقة بالغيبيات . وليس هذا بغريب على السلطات القمعية عبر التاريخ إن لم يكن من ضرورات وجودها واستمرارها ، فقد حولت الستالينية ضريح لينين لما يشبه المزار الدينى ،ونشرت تماثيله وصوره فى كل مكان ،وأصبحت زيارة الضريح بمرور الوقت طقس شبه دينى .
وعلى العموم فالشرور التى تسببها السلطة القمعية أكثر بما لا يقاس مما تدعى أنها ما قامت إلا لتمنعه.
ما يجب أن نعلمه هو أن اللاسلطوية الجماعية ترتكز على الرفض الكامل لمجموعة من الأساطير هى :-
أولا:- أن الدولة ضرورة اجتماعية مطلقة لضمان سير المجتمع وتماسكه وحمايته من أعدائه الداخليين والخارجين عن قوانينه وقواعده ، وأعدائه الخارجيين من الطامعين فى السيطرة عليه وغزوه ، وحماية غالبية المواطنين الصالحين والطيبين من القلة الضالة والمنحرفة والخارجة عن السيطرة والقانون . وأن المشكلة ليست فى السلطة القمعية فى حد ذاتها ، ولكن فيمن يمارسها ، وكيف يمارسها ، والحقيقة أن السلطة تفسد من يمارسها ، ولو خلصت نيته وحسنت أخلاقه . و أنه من الخيالية أن نرتكن لوهم أن تحكمنا الملائكة البشرية التى لم يخبرنا التاريخ أنها حكمتنا من قبل ، فحتى لو حكمتنا فستتحول لشياطين بمجرد إحساسها بدفء مقاعد السلطة ، والسلطة تقمع وتشوه من تمارس عليهم مثلما تشوه وتفسد من يمارسوها . وهذا لا يعنى إنكار أن البشر فى أمس الحاجة دائما لتنظيم يضمن تعاونهم ، وينظم نشاطهم الجماعى لتلبية احتياجاتهم المشتركة دون أن يقمعهم ودون أن يتعالي عليهم ، وهو أمر مختلف تماما عن السلطة التى تقهرهم رغما عن إرادتهم ، ومن خارجهم ، فهناك فرق بين سلطة إدارية تمارس للتنظيم ، كسلطة رجل المرور فى الشارع ، وسلطة قبطان السفينة فى أعالى البحار ، وسلطة الطيار فى طائرته ، وبين السلطة السياسية القهرية والمتعالية والمنفصلة عن البشر التى ترفضها اللاسلطوية الشيوعية. وهذا الرفض لا يعنى أن اللاسلطوية الشيوعية ضد تنظيم المجتمع عبر هيئاته التفويضية المنتخبة ، و اللاسلطوية الشيوعية بالضرورة مع وجود قوة رادعة و قامعة للاعتداءات المخلة بأمن الناس وحريتهم وحقوقهم .
ثانيا:- أن الديمقراطية التمثيلية النيابية هى أقرب شكل ممكن لممارسة السلطة يضمن الحرية للبشر ، وما هى فى الحقيقة سوى مجرد إعطاء الأغلبية الحق فى أن تذهب بشكل دورى لتختار من بين السياسيين الذين يمثلون النخبة الحاكمة من سيمارس عليهم السلطة وباسمهم ، فى تمثيلية لا تنطلى إلا على السذج ، فمن يملكون أى من مصادر السلطة ، هم وحدهم القادرين واقعيا على الفوز فى الترشيح للمجالس التمثيلية الذى يكتفى المحرومون منها واقعيا بمجرد حقهم القانونى والشكلى فى الترشيح ، فليس لهم سوى اختيار أى من هؤلاء المرشحين سيمثلهم لعدة سنوات ، معتمدين فى اختيارهم على مدى تأثرهم بالدعاية الانتخابية التى تملك وسائلها النخب الحاكمة والمالكة التى يمثلها هؤلاء المرشحين . وهى شكلية كذلك لأن النخب السياسية سواء فى الحكم أو فى المعارضة تحتكر وحدها دون الجماهير الناخبة كل وسائل التأثير على عقول تلك الجماهير ، والمحجوب عنها المعرفة والمعلومات الضرورية ، والخاضعة لعملية تشكيل للعقل وتوجيهه إلى ما تريده هذه النخب ، التى تتنافس فيما بينها فى لعبة كراسى موسيقية ، لتبادل مقاعد الحكم و المعارضة ، فبطاقة الاقتراع بين أيدى شعب أهمل تثقيفه عمدا ، وتتسلط عليه أدوات غسل العقل وتعليبه ، و صناعة الوعى وتشكيله ، ليست سوى حيلة ماكرة لإنتاج وتجديد إنتاج أرستقراطيات حاكمة مقنعة بالتمثيل الشعبى الكاذب ، مهمتها أن تحافظ على مصالح ملاك الثروة.
ثالثا:- أننا يجب أن نمر بمرحلة انتقالية مؤقتة نحو المجتمع اللاسلطوى الشيوعى، تقوم فيها الدولة الاشتراكية ، كإله جديد يحتكر كل السلطة ومصادرها باسم الأغلبية التى تقع فى العبودية لمن يملكون السلطة الفعلية من الساسة والبيروقراطيين والعسكريين ، والدولة الاشتراكية هنا مؤسسة كلية القدرة والجبروت تسحق كل الخاضعين لسلطانها الشامل بأسوأ مما تفعله الدولة البورجوازية ، وهى تستند لمطلق مجرد ومثالى جديد هو الطبقة العاملة ، يبرر السلطة الواقعية لأفراد ونخب تسيطر فعليا على مصادر السلطة دون من تدعى تمثيلهم ، ومن ثم تنفرد بممارستها ، فمن يحوز على السلطة ومصادرها لا يتنازل عنها بل لابد وأن يدافع عن ما يحوزه بكل الوسائل الممكنة مهما بلغت شراستها ، ومهما كانت أفكاره ونواياه المعلنة ، فأنه مضطر لخيانتها لمقتضيات الحفاظ على موقعه فى السلطة ، هذا ما أثبتته وقائع التاريخ فى الدول التى كانت تدعى بالاشتراكية ، وما يبرهن عليه المنطق ، فالبشر الأعلى ليسوا بملائكة حتى يتنازلوا عن امتيازاتهم ونفوذهم بمحض إرادتهم دون أى ضغط من من هم أسفلهم من البشر .
ومن هنا فالتحرر النهائى لكل البشر يعنى أن يسيطر كل البشر، جماعيا وعلى قدم المساواة على كل مصادر السلطة القمعية ، بالسيطرة الجماعية على مصادرها المختلفة الثروة والعنف والمعرفة ، عبر تنظيم اجتماعى مختلف جذريا عن ما نعرفه من مجتمعات مؤسسة على انقسام المجتمع بين من يملكون أو يسيطرون على السلطة ومصادرها ، وبين من لا يملكونها أو يسيطرون عليها . ومن ثم فاللاسلطوية الشيوعية تعنى فى المقام الأول القضاء على تسلط الأقلية على الأغلبية بالقضاء على احتكارها للمصادر المادية للسلطة. والقضاء على احتكار السلطة لا يعنى الفوضى وغياب النظام ، و لا أن يعيش الأقوياء على حساب الضعفاء ، ولا إطلاق الشرور البشرية الأنانية من عقالها ، ولا التحلل الأخلاقى و الانفلات السلوكى كما يتصور البعض ويحبون ، كما لا يمكن أن يأتى التحرر عن طريق الإرهاب والعنف ، لأن من يمارسهما يحتكر مصدر هام للسلطة يفرض به مشيئته على من لا يملكه ، وهى إمكانية يحتكرها البعض بطبيعتها ، فليس كل إنسان قادر على ممارسة العنف ، سواء نفسيا أو بدنيا ، ومن ثم فهى ليست وسيلة للتحرر بقدر ما هى وسيلة لإحلال نخبة حاكمة محل أخرى ، ف اللاسلطوية الشيوعية هى القضاء على قانون الغابة الحاكم لتاريخ البشرية رغم تحضرها ، والذى ينص على أن من يملك وسائل العنف قادر على فرض إرادته على من لا يملكوه . ف اللاسلطوية الشيوعية على العكس من كل هذا ، هى تنظيم اجتماعى يضمن أعلى درجات الحرية والعدالة والمساواة بين أفراده ، مما يتيح لهؤلاء الأفراد أن يمارسوا وعلى نحو فعلى كل المثل العليا الإنسانية التى تكبحها وتشوهها البنية السلطوية والطبقية والهرمية فى المجتمعات البشرية ، ومن ثم لن يتحقق هذا التنظيم سوى بفعل جماعى لجماهير البشر الواعية بما تفعله ، ومن ثم فاللاسلطوية الشيوعية تتبرأ من الخيالية والجمود والمثالية كما تتبرأ من الإراديـة والعنف ، و مرجعيات التمثيل لكيانات و أفكار مطلقة ومثالية ومجردة ، فهى مجرد مبادئ تحدد الإطار العام لمجتمع المستقبل تاركة التفاصيل للجماهير لتصنعها بنفسها عبر تحركها الواعى المنظم ، عبر التجربة والمناقشة الحرة . وعبر عملية تحررها الذاتى .
* و اللاسلطوية الشيوعية تختلف مع اللاسلطوية الرأسمالية التى تكتفى بالحريات والحقوق الفردية السياسية والمدنية ، ، فطالما مورست تلك الحقوق والحريات ، وهناك من يحتكرون مصادر السلطة المختلفة دون سواهم فهى لا تعنى شيئا إلا لمن يملكون السلطة ، ومن ثم فالتحررية الرأسمالية تحررية زائفة وفارغة المضمون ، و شكلية فى حقيقتها ، فلا حرية بين البشر دون أن يتساوى الجميع فى الفرص و ظروف الحياة ، وتلك المساواة فى الفرص لا تعنى إهدار التمايزات والاختلافات بين الأفراد ، بل تتيح لهم إبراز تلك التمايزات والاختلافات على قاعدة من عدالة الفرص المتساوية للجميع ، وهذا غير ممكن طالما هناك من يملكون أو يسيطرون على الثروة ، وهناك من لا يملكونها أو يسيطرون عليها ، ولا حرية طالما كان هناك من يسيطر على وسائل العنف دون الآخرين ، وطالما كان هناك من يحتكر وسائل المعرفة دون البعض ، وانه مهما كانت التمايزات و الاختلافات بين الأفراد فأنها لا تبرر لقلة منهم أن تحتكر السلطة ومصادرها دون سواهم ، و أن المساواة فى السلطة ، ومن ثم مصادرها لا يعنى عدم احترام القدرات والمواهب والتخصصات الفردية ، بل يتيح لها التحرر من أسر التفاوت فى السلطة والثروة ، وقهر العنف والحاجة والجهل.
* وتختلف اللاسلطوية الشيوعية مع الاشتراكيات السلطوية المختلفة ،إصلاحية كانت أو ثورية ، والتى فى حقيقتها شكل من أشكال العبودية للدولة ، يفرض على الأغلبية لصالح استمرار احتكار البيروقراطية للسلطة ومصادرها . فالبشر يحتاجون للحرية بقدر احتياجهم للعدالة ، و لن يكسبوا الكثير حين يتحررون من الرأسماليين ليسلموا أنفسهم عبيدا للبيروقراطيين . وحين يضمنون الخبز فى مقابل حريتهم فأنه من السهل جدا أن يخسروه . و اللاسلطوية الشيوعية وإن كانت تقدر أبلغ التقدير الماركسية كتراث فكرى عملاق ، إلا أنها تختلف مع التفسير السلطوى اللينينى لها ، و تختلف مع فرضيتها الأولية بضرورة الدولة التى تتركز فى يديها السلطة ومصادرها المادية كمرحلة مؤقتة وانتقالية لمجتمع يقوم على نفس المبادئ والأهداف اللاسلطوية الشيوعية. وتعتقد اللاسلطوية الشيوعية أن المرحلة الانتقالية المطلوبة ليست دولة من نوع جديد بل هى الثورة نفسها باعتبارها عملية مزدوجة من هدم القديم وبناء الجديد.
التنظيم الاجتماعى الذى يكفل التحرر الحقيقى للبشر ، يتأسس على الملكية الاجتماعية لكل من وسائل الإنتاج والعنف والمعرفة ، باعتبارها مصادر السلطة المادية . و يقوم من ناحية أخرى على احترام حقيقة تفرد الإنسان كفرد له سماته وشخصيته الفريدة ، والذى تتعدد أبعاد شخصيته ، بسبب مورثاته البيولوجية و مكتسباته الاجتماعية وخبراته التاريخية وقدراته الخاصة . تماما مثلما يجب أن نحترم حقيقة تميز الجماعات البشرية المختلفة ثقافيا ودينيا ولغويا . أن هذا الكائن الإنسانى الفريد متعدد الأبعاد والأنشطة والرغبات والاهتمامات والانتماءات ، يأتى إلى العالم مكبلا بالعديد من القيود الذى لا دخل له فيها ولا اختيار ، سواء الوراثية أو الاجتماعية ، مجبرا على اكتساب مورثاته وجنسه و لغته وثقافته وعقيدته وعاداته وتقاليده ومجمل وعيه . ومن ثم فيجب لتحريره أن يكون له الحرية فى أن ينضم طوعا طالما قارب سن الشباب ، إلى جماعة بشرية معينة تقوم بنشاط محدد ، ليتعاون مع أفرادها فى تلبية احتياجاتهم المشتركة عبر هذا النشاط . ومن ثم تتعدد الجماعات التى ينضم لها الفرد بتعدد أنشطته واهتماماته وأبعاده ورغباته وانتماءاته .
يبدأ بناء المجتمع اللاسلطوى بتحرر إرادة الفرد العاقل والبالغ بالطبع ، فى أن يحدد ما يود ممارسته من نشاط ، وما يود أن ينضم إليه من جماعات ، وما يدخل فيه من علاقات اجتماعية مختلفة ، وبالطبع تتنوع الجماعات من إنتاجية ومهنية واستهلاكية وسكانية و خدمية وتعليمية وثقافية واجتماعية ودينية لتشمل كل أوجه النشاط البشرى ، ومن هنا تتعدد انتماءات الفرد و أنشطته وعلاقاته الاجتماعية المختلفة و تتحدد وفق إرادته. ويقوم المجتمع اللاسلطوى على شبكة تحتية من تلك الجمـاعات الأولية المتباينة الأنشطة بتباين النشاط البشرى ، والتى تنشأ لتلبى الاحتياجات البشرية المختلفة ذلك لأن البشر ليسوا مجرد حيوانات منتجة فحسب أو مجرد مقيمين بمكان ما فقط ، ومن ثم لا يمكن بناء المجتمع البشرى على جانب واحد من نشاطهم بل يجب أن يبنى مراعيا تعدد جوانب شخصيتهم و أبعادها ومن ثم تتعدد الجماعات بتعدد جوانب الشخصية .
وفيما يتعلق بتنظيم شئون تلك الجماعة فهو كالتالى :-
لما كان كل نوع من أنواع النشاط البشرى يلزمه أساس مادى لممارسة النشاط من مصادر السلطة المختلفة حسب الحالة ، فيكون للجماعة حق الانتفاع على نحو متساو بين أعضاءها بكل مصادر السلطة المرتبطة بممارسة نشاطها فحسب ، ويبقى للأعضاء دائما حق تملك مقتنيات لاستعمالهم الشخصي .
و تتأسس إدارة الجماعة على الديمقراطية المباشرة ، التى تعنى أن كل ما يتعلق بنشاط الجماعة و أفرادها فيما يتعلق منه بنشاط الجماعة ، يحق لكل أعضاء الجماعة مناقشته و اتخاذ قرارا بشأنه على نحو ديمقراطى. وعلى الجماعة تفويض من تراهم من مختصين فى الأمور التى يحتاج تقريرها إلى مختصين ، ويحق للجماعة مراقبة هؤلاء المفوضين ومحاسبتهم وتكلفيهم وسحب التفويض منهم فى أى وقت إذا ما أخلوا بوظائفهم . ومن ثم تنقسم القرارات إلى قرارات سياسية يتخذها أعضاء الجماعة ديمقراطيا ، وقرارات إدارية و فنية وتنفيذية يتخذها المختصون الذين تفوضهم الجماعة فى حدود اختصاصهم . كما أن هؤلاء المفوضين لا يحصلون من الجماعة على أكثر مما يحصل عليه العضو العادى مقابل أداء خدماتهم .
اللاسلطوية الشيوعية لا تعنى عدم احترام المعرفة والعلم ، ومن ثم التخصص والموهبة والقدرة الفردية ، ولا تعنى عدم احترام النظام و القواعد . وبناء على ذلك فلكل جماعة أن تحدد القواعد التى تنظم أوجه نشاطها ، وأن تعاقب أى عضو من أعضاءها يخرج عن هذه القواعد والنظم التى حددوها بأنفسهم ، أو قبلوها مع انضمامهم للجماعة ، وأن تفصل فى الخلافات التى قد تحدث بين الأعضاء ، والمخالفات التى قد يرتكبوها.
ومن هذه الجماعات الأولية التى تشكل خلايا المجتمع البشرى ، تتشكل اتحادات متنوعة بتنوع النشاط البشرى فيما بين الجماعات المختلفة أو المتشابهة ، وذلك من أسفل إلى أعلى ، لتلبية احتياجات ومصالح بشرية أكثر اتساعا تهم قطاعات أوسع من البشر ، عبر الاتحاد بين الجماعات والاتحادات المختلفة من مستوى الاتحادات المحلية وحتى الكوكب بأسره ، فتنشأ اتحادات على أسس جغرافية ، وأخرى على أسس اقتصادية أو مهنية أو خدمية أو ثقافية أو دينية أو قومية .. الخ . تلك الاتحادات تقوم على الانضمام الطوعى للجماعات والاتحادات المختلفة عبر مفوضين منتخبين من تلك الجماعات والاتحادات ، والتى يحق لها مراقبة هؤلاء المفوضين ومحاسبتهم وتكليفهم وسحب التفويض منهم فى أى وقت إذا ما أخلوا بوظائفهم ومقتضيات تفويضهم .
ومثلما يحدد أعضاء الجماعات القواعد التى تلزمهم فى ممارسة نشاطهم الجماعى ، تحدد الجماعات والاتحادات القواعد الملزمة التى تنظم نشاطها الجماعى ، وأن تعاقب المخالفين لتلك القواعد ، و أن تفصل فى الخلافات التى قد تحدث بين الجماعات والاتحادات المختلفة.
ويبقى أن أشير إلى:
أولا :- إذا كانت عضوية الأفراد للجماعات وعضوية الجماعات للاتحادات طوعية ، فأن حق الانفصال مكفول للأفراد من الجماعات ، والجماعات من الاتحادات . وبالطبع فحق الأفراد فى تكوين الجماعات المختلفة ، والاتحادات حرية مكفولة للجميع.
ثانيا:- أن حقوق سلطة التفويض هى حقوق إدارية و تنفيذية وتنظيمية ، وليست سياسية ، فالمفوضين ملزمين بالإرادة السياسية لمفوضيهم ، كما أنه لا امتيازات لهم بسبب أداءهم لوظائفهم .
ثالثا:- من الطبيعى أن أى سلوك أو نشاط سواء فردى أو جماعى يعرض أمن الناس وحريتهم وحقوقهم للانتهاك والخطر ، لابد و أن يواجه بالردع أو العلاج اللازم عبر القواعد القانونية الملزمة للجماعات والاتحادات .
رابعا :- اللاسلطوية الشيوعية مشروع أممى ، ومعادي لكل الحركات السياسية القائمة على أساس قومى أو دينى أو عنصرى ، مشروع يهدف لتحرير كل البشر على ظهر الأرض ، و لا يعترف بشرعية أى حدود جغرافية أو انفصالية بين البشر بسبب اختلاف قومياتهم أو أديناهم أو ثقافاتهم أو أجناسهم أو أعراقهم أو لغاتهم . ويعتبر أن هذا التحرر غير ممكن إلا على مستوى الكوكب بأسره ، و يرى أن الحل لمعظم مشكلات البشرية الآن ، ولكى تتخلص من حماقتها وشرورها ، هو بناء مجتمع لاسلطوى يضم كل البشر وبصفتهم بشر فحسب على تلك الأرض وطنهم الوحيد ، وملكيتهم الجماعية المشتركة ، وقاربهم الذى يسبحون به فى الكون اللانهائى ، بعيدا عن كل ما يفرقهم على أساس عنصرى بغيض .
هذا هو الإطار العام لأهداف اللاسلطوية الشيوعية ومبادئها ، الذى يحمل بداخله إمكانيات الاختلاف فى التفاصيل بين متبنيه .
الممارسة
اللاسلطوية الشيوعية حركة ثورية لا تستهدف الوصول للسلطة السياسية من أجل تغيير الواقع ، بل تستهدف هدم كل سلطة قمعية منفصلة عن الجماهير . تستهدف أن تحرر الطبقات المقهورة نفسها ذاتيا ، ، عبر فعلها الجماعى الواعى المنظم ، لا أن تحـل هى محل تلك الطبقات لتصنع لها ، و عبر قمعها أو إدعاء تمثيلها ما تظنه أنه يحررها ، و لا أن يتحول ممثليها لنخبة حاكمة أخرى تحتكر السلطة وأدواتها ، و لذلك فهى تختلف فى ممارستها لتغيير الواقع الاجتماعى عن كل الحركات الثورية السلطوية ، فهى تؤمن بالتحرر الذاتى للطبقات المقهورة كوسيلة وحيدة للتحرر النهائى لكل البشر ، فالثورة الاجتماعية قد يصاحبها انقلاب فى السلطة ، لكنها عموما عملية أوسع نطاقا وأعمق امتدادا من مجرد أن تستولى نخبة ثورية سواء بدعم الطبقات المستغَلة والمقهورة أم بغير دعمهم على السلطة ، وأن تحل نخبة ثورية بدلا من نخبة رجعية فى الحكم . وبناء على ذلك فالثورة اللاسلطوية الشيوعية ، ثورة اجتماعية تندلع من أسفل إلى أعلى ، بهدف بناء اجتماعى مغاير على نحو جذرى لكل ما هو معروف من مجتمعات ، بناء يتم من أسفل لأعلى ، وهو ما لا يمكن تخيله إلا كفعل جماعى منظم للطبقات المقهورة الواعية بما ولماذا وكيف تفعله ، وهو الأمر المرهون بتغير جذرى فى وعى تلك الجماهير ، ذلك التغير مشروط بظروف مادية تدفع الجماهير المحكومة للتفكير على نحو مستقل عن ما تقدمه لها السلطة من وعى ، وهو ما لا يد لنا فيه ، وظروف ذاتية تسمح بتقديم وعى بديل يدفع تلك الجماهير للفعل الجماعى المنظم نحو التغيير ، وهذا هو دورنـا الوحيد .
ولكن كيف يحرر المقهورين أنفسهم ذاتيا ؟
لدينا إطار من الأهداف ، ولدينا واقع اجتماعى نريد تغييره فى هذا الإطار ، ومن ثم لابد أن تكون لدينا الوسائل الكفيلة بهذا التغيير ، و بما يتلاءم مع الأهداف ولا يتناقض معها ، وهو ما وقعت فيه الاتجاهات الماركسية السلطوية ، وأورثها الفشل .
لا شك أن ثمانية ألف عام من الاستغلال والعنف و القهر وصناعة الوعى الموجه لمصلحة الطبقات القاهرة ، تركت أثارها العميقة على وعى وسلوك الطبقات المقهورة ، مما أورثها نفسية المقهورين وما أدراك ما هى تلك النفسية ؟ فلا يظن أحد ، أن الهدف من التحرر من القهر والاستغلال ، هو مجرد التعاطف مع المستغَـلين والمقهورين والفقراء ، وليس مجرد الهاجس المبتذل الذى يقدمهم كملائكة لا تنقصها سوى الأجنحة ، فى حين يقدم الطرف الآخر كشياطين لا تنقصها سوى القرون . فالدافع الأخطر والأهم لنضالنا ، هو أن القهر بقدر ما هو تقييد للحرية وبقدر ما هو وسيله للاستغلال بقدر ما هو تشويه نفسى وعقلى لكل من القاهر و للمقهور ، فالعبيد لابد وأن يكذبوا وينافقوا ليضمنوا البقاء ، وأن لا يفكروا فحسب سوى فى طاعة و إرضاء سادتهم ، وهم قد ينتظرون لحظة التحرر لكى يمارسوا ما عانوا منه سابقا على عبيد آخرين ، فقد انسحقت شخصيتهم لصالح السادة ، وتمثلوا مقلوب شخصية سادتهم ظاهريا فى انتظار اللحظة التى يتمثلوها كاملة هى نفسها على من هم أدنى ، وإذا كان للسادة وسائلهم فى الإخضاع ، فللعبيد وسائلهم فى الاستفادة من وضع الخضوع ، و قس على ذلك الشعوب التى يتم استعمارها ، ومعظم النساء فى المجتمعات الذكورية اللواتى يكن أكثر محافظة على القواعد الاجتماعية التى تقهرهن من كثير من الرجال الذين يقهروهن . ويتجلى هذا الوضع بأوضح ما يكون فى المؤسسات الحكومية والعسكرية القائمة على التنظيم الهرمى ، فمن هم فى منتصف الهرم ما بين قمته العليا وأدنى قاعدته ، يمارسون القهر والسيادة والتسلط والتعالى على من هم أسفل ، فى حين يتحولون فى علاقاتهم بمن هم أعلى إلى مقهورين وخاضعين وكاذبين ومنافقين ومخادعين وهكذا.هذا عن أثر القهر والإخضاع ، أما عن الفقر والحرمان وذل الحاجة للبقاء ، فلا يقل عن أثر القهر ، ومثله مثل الرغبة فى الثروة لتفادى الفقر والحرمان ، بل وزيادتها إن وجدت فرصة ، وذلك للارتفاع درجة أو درجات فى اتجاه أعلى هرم السلطة التى تتيحه زيادة الثروة ، أو الخوف من الهبوط درجة أو درجات فى اتجاه أسفل الهرم لو فقد بعضا من الثروة . فكليهما يتسبب فى تشويه الوعى والنفس والسلوك الإنسانى كل بطريقته ، فمن هنا تتولد معظم الجرائم والشرور التى عرفتها البشرية. و إلا لماذا يسرق البشر و يخونون و يقتلون ويكذبون .. الخ ؟ أليس لتلك الأسباب بشكل مباشر أو غير مباشر .
إن ثمانية ألف عام احتكرت فيهم الطبقات المالكة والحاكمة وسائل إنتاج الثقافة والمعرفة والوعى ، لتضمن بقاء الخاضعين لحكمها ، كحملان وديعة مستسلمة لأقدارها ، لا تتمنى سوى إرضاء من يرعاها ، وتعتبره قمة الشرف ، قد تركت آثارها العميقة على وعى المقهورين والمحرومين ، بما لا يمكن إزالته بمجرد كلمات تقال لتلك الجماهير ، فنحن نتلقى وعينا بكامله من المجتمع ، عبر الأسرة والتعليم والفنون والآداب والمؤسسات الدينية والإعلام وغيرها ، و لا قدرة لدينا على الاختيار والنقد والشك والبحث عن البدائل ، وكلها خاضعة لمن يملك السلطة يوجهها كيفما شاءت مصالحه فى البقاء.
تخلق أجهزة صناعة الوعى السائد من أسرة وتعليم وإعلام وثقافة ودين ، عقول نقلية وتقليدية و متعصبة لما نشأت عليه من ثقافة ، عقول نزعت منها القدرة على الشك والنقد والتمرد ، فلا تعرف سوى التعصب الأعمى للعادات والتقاليد والعقائد والأفكار التى رضعتها مع لبن الأمهات حتى أنها وهى تتمرد على كل هذا لاتفعله إلا على نحو متعصب ونقلى وجامد للفكر الجديد الذى اعتنقته ، ومن هنا عدم التسامح مع أو تفهم كل ما يخالف ذلك . بل والاستعلاء بالجهل بالآخر باعتباره ميزة ، والخوف من المعرفة به باعتبارها خطرة ، ومن هنا يأتى جمود العقل بالرضا بالوضع الراهن أو الفكر الذى تم الاستقرار عليه ، استسلاما له أو خداعا للذات بفضله .
عقول تحكمها العواطف والمشاعر العمياء بأكثر مما يحكمها الواقع وحقائقه، ويسهل عليها الانجذاب وراء الدعاية الديماجوجية و الإثارة العاطفية ، بأكثر مما تتأثر بحديث العلم . فمع أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية أشعل الإعلام المصرى الشارع المصرى بسرعة كما أخمده بسرعة ، وتعاطف العالم مع الفلسطينيين لصور شاهدوها على شاشات التلفاز ، إلا أن التعاطف تحول فى اتجاه آخر بمجرد مشاهدة صور أخرى ، فالإعلام الذى هو إعلان فى الأساس بمعنى أنه ترويج لسلع مختلفة مادية ومعنوية ، هو ساحر الأغلبية ، وموجهها لصالح من يملكوه ، وبعد ذلك مازال البعض يتحدث عن الديمقراطية المزعومة .
فاليساريون التقليديون دائما ما يملئون تحليلاتهم ، بالحديث عن قوى وعلاقات الإنتاج ، والطبقات والصراع بينها ، والثورة والسلطة السياسية ، إتباعا جامدا ومبتذلا ومحدود الأفق للتفسير المادى للتاريخ والمجتمعات ، وهو التفسير الصحيح وإن كان ليس كافيا من وجه نظرى ، إذ ينقصه الاهتمام بالوعى الاجتماعى وصناعة الوعى ، فالبشر ليسوا مجرد حيوانات منتجة و اقتصادية ، وهم حتى حين ينتجون وجودهم المادى ، فأن عامل الوعى والمعرفة يلعب دورا هاما فى إطار هذه العملية ، فبرغم العلاقات الرأسمالية السائدة ، فالشركة اليابانية تدار على نحو مختلف عن الشركة الأمريكية ، لاختلاف العامل الثقافى رغم استمرار القهر والاستغلال جوهريا فى الاثنين ، فإذا كانت المسألة بهذا التبسيط المخل الذى يمارسونه لكانت الثورة الاجتماعية قد أنجزت منذ زمن طويل .
فى لحظات معينة يصعب التنبؤ بها ، تندفع الجماهير المقهورة فى التمرد على السلطة ، تمردا عفويا ، حيث ينفجر بركان الغضب دون هدف واضح ، فكأنما كان هذا الخنوع والرضا واليأس والجمود يخفى وراءه تراثا عفويا عميقا من الإحساس بالقهر والاستغلال والظلم ، والرغبة المكبوتة والمضمرة فى الانفجار ، كانت تنتظر لحظة ما لا نفهمها جيدا و لا يمكن لنا توقعها على نحو دقيق ، ولكنه يكون انفجار أعمى ، بركان يثور على نحو مفاجىء ، ينفس عن كل ما تم كبته لسنوات ، ولكنه ليس بالضرورة قد يهدف لشىء سوى التعبير عن الغضب .
وفى هذا تفسيرات متعددة ، فيقول البعض أن سبب التمرد والثورة هو تدهور أوضاع الجماهير الاقتصادية ، وهو تفسير ضعيف فقد عرف البشر و لآلاف من السنين التضور جوعا وبؤسا وتشردا ، ولم يدفعهم هذا للثورة ، ويقول البعض الآخر أنها التوقعات والآمال المحبطة ، وهو تفسير نفسى لا يمكن التأكد منه علميا ، ويدعى البعض أنه تغير مفاجئ فى الوعى وهو أمر مشكوك فيه حيث لا يمكن أن تتكسر كل آلة الوعى القديمة لدى كل المقهورين ، وتظهر آلة جديدة تدفعهم للثورة بلا مبرر و لا سبب ، واعتقد أن كل هذه الأسباب وغيرها قد تكون صحيحة ، ولكن ليس كل على حدة ، ولكنها تتراكم على مدى زمنى متفاعلة فيما بينها حتى تحدث فعلها ،إلا أن هذا وإن كان كافيا لتغذية التمرد الإنفجارى بشكل عام ، إلا أنه ليس كافيا لإحداث التغير الاجتماعى الذى تحدثه القوى الاجتماعية المنظمة و المرتبطة بوسائل وعلاقات الإنتاج الأكثر تقدما ، وهى ليست بالضرورة وحين تتحرك للتغيير الاجتماعى أن يكون دافعها البؤس أو الأمال المحبطة أو الوعى . وتلك العوامل الانفجارية ليست كافية فى حد ذاتها لتفسير فعل اجتماعى معقد ينتج كمحصلة للعديد من الأسباب المتفاعلة ، وأى ما كانت الأسباب الموضوعية التى تدفع للتمرد و الثورة ، فأنه حدث كثيرا ، و لا يوجد ما يمنع من تكراره عبر التاريخ البشرى ، إلا أنه فى كل مرة لم يؤد إلى التحرر النهائى من الوضع السلطوى ، فدائما ما تحل نخب جديدة بدلا من القديمة فى هرم السلطة مستخدمة جمهور المقهورين الغاضبين كوقود للتغيير ، و كروافع لوصولهم للسلطة ، وإن هذا الفعل نفسه هو القابلة التى أحدثت تطورات اجتماعية فى بعض الأحيان من نمط إنتاج لنمط إنتاج آخر ، وتغير فى شكل العلاقات بين الطبقات ، وكيفية ممارسة النخب الحاكمة للسلطة ، وأيضا وكنتيجة لكل هذا فى أشكال الوعى الاجتماعى السائدة.
و برغم كل ضعف المقهورين الظاهرى نظرا لفقدانهم السلطة ومصادرها ، إلا أن قوتهم الكامنة تتجلى فى لحظات التمرد والثورة ، كونهم منتجى الثروة المادية أساس حياة المجتمع من جانب ، وكونهم يشكلون غالبية السكان من جانب آخر ، كما أن هناك حدودا وشروطا لممارسة السلطة لا يمكن تعديها عند مقاومة السلطة لتمرد الجماهير وثورتها . وكأى صراع يسفر عن منتصر ومهزوم ، يتوقف نجاح أى طرف على مدى قدرته على كسر إرادة الطرف الآخر ، وذلك بتفتيت قوته واستنزافها أو شل فاعليتها ، ومن هنا قد ينجح المقهورين فى إزالة الطبقات الحاكمة ، وقد تنجح السلطة القديمة أحيانا فى الاستمرار بقمع الجماهير أو خداعها ، تاركة الجماهير لدورة جديدة من الخضوع و اليأس ، وتمثل وعى السادة ، ثم التمرد مجددا عندما تتفاعل أسباب التمرد . و المعضلة أن الطبقات المقهورة الآن ، ونظرا لافتقادها الوعى اللاسلطوى ، قد تنجرف أثناء تمردها وراء نخب سياسية ، تمتطى تمردها من أجل أن تصل للسلطة ، وتحكم باسمها وتقمعها ، خادعة إياها بأنها تمثلها ، وأنها ما أتت إلى مقاعد السلطة إلا لتلبي مصالحها ، وقد تنجرف الطبقات المقهورة وراء زعامة ديماجوجية ، تلهب حماسها وتغازل عواطفها مضللة إياها بالأساطير الزائفة والشعارات البراقة ، لكى تستبد بها فى النهاية وتروضها بالعصا و الجزرة . و فى النهاية فأن تذمر تلك الطبقات واحتجاجها لا يعنى دائما إنها على الطريق اللاسلطوى الشيوعى، فأوهام الديمقراطية النيابية ، والاشتراكية الإصلاحية ، و الدولة القومية أو الدينية ، والزعيم الملهم والمستبد العادل ، والتحرر القومى والاستقلال الوطنى ، و الاشتراكية السلطوية ، والفاشية ، والنقابية ، و حتى حلم التحرر الفردى . كلها تتنافس فى سوق الدعاية السياسية ، و الفرق بين مروجيها هو فى تنافسهم الشرس على المستهلكين أى سائر المقهورين ، والذين بواسطتهم يضمنون البقاء فى السلطة ، أو ينجحون فى الوصول إليها على أعناق جماهير المقهورين الذى أورثها تجهيلها وتضليلها المتعمد ، وعيا عميق الجذور لا يعبر عن مصلحتها الحقيقية فى التحرر . وهذا تهديد سيظل مستمرا لأى تمرد أو ثورة قادمة ، لا يمكن تلافيه ، إلا بإحداث تغيير جذرى فى وعى تلك الجماهير .
ومن هنا تأتى مهمة الحركة اللاسلطوية الشيوعية كحركة ثورية منظمة فى أن تتلافى هذا التهديد المقبل ، وبالتالى القدرة على تحويل التمرد العفوى لحركة جماهير واعية ومنظمة قادرة على تحرير نفسها ذاتيا ، وهو ما لا يمكن أن يحدث إلا إذا تحولت الحركة اللاسلطوية الشيوعية من حركة طلائع ثورية إلى حركة الجماهير نفسها ، وممارستها وتنظيمها من ممارسة وتنظيم محدودين بها ، لممارسة وتنظيم الجماهير ذاتها ، ووعيها لوعى الجماهير نفسها.
يختلف اللاسلطويون الشيوعيون جذريا مع النمط اللينينى فى الثورة ، ويعتقدون أن المركزية الديمقراطية كأساس للتنظيم الثورى الممثل للطبقة العاملة ، وفكرة تمثيل الطبقة العاملة نفسها ، ومهمة الحزب فى نقل النظرية والوعى للجماهير ، والإرادية فى الفعل الثورى بعيدا عن فعل الجماهير ، وهى كل ما يميز هذا النمط هى جذور استبداديته و نخبويته. هى أسس الدولة البيروقراطية المتسلطة ، التى لا تعنى بتحرير الجماهير بقدر المحافظة على مميزات بيروقراطيتها الحاكمة .
وعلى العكس من هذا ، يفترض اللاسلطويون الشيوعيون أنه وبالرغم من احتكار النخب الحاكمة لمصادر إنتاج وتوزيع المعرفة و الوعى ، فأن هذا الاحتكار ليس سدا مصمتا ، فهو و أن كان بناء هائل ، إلا أنه ورغم شموخه وصلابته الظاهرة ، فأن له ثغراته التى يمكن أن ينفذ منها أفراد يأتون من شتى الطبقات و الشرائح الاجتماعية المختلفة ، امتلكوا لأسباب متعددة تخصهم القدرة على التمرد على الوعى الرسمى السائد ونقده والشك فيه ، ومن ثم إنتاج وعى ومعرفة جديدة مخالفة لما هو سائد ، هذه الطلائع الثورية يتلخص دورها ومهمتها فى زيادة الثغرات وتوسيعها ، لتنفذ منها قطاعات من الجماهير تتسع باستمرار محولة الثغرات لفجوات ينساب منها الوعى الثورى الجديد بين غالبية الجماهير ليدمر سد الوعى القديم الجاسم على عقولهم .
تلك الطلائع وهى تؤدى مهمتها التاريخية تنتظم جماعيا بنفس قواعد و مبادئ المجتمع اللاسلطوى ، ومهمتها الأساسية هدم سد الوعى السائد نظريا ودعائيا ، مقدمة الوعى الجديد كبديل ثورى حقيقى . وهى فى ذلك تركز على فضح الأيديولوجيات السلطوية التى تقدم كبديل زائف وواقعى للوعى السائد . فدور اللاسلطويون الشيوعيون ومنظماتهم هو كسر الضلع الثالث والأضعف فى مثلث مصادر السلطة وهو المعرفة والوعى . وذلك بإنتاج الوعى البديل ، ونشره بكل الوسائل المتاحة . وهى عملية متعددة الجوانب بتعدد أشكال الوعى من بحث علمى وتحليل نظرى ، ودعاية وتحريض .الخ.
الثورة فى مفهوم اللاسلطويين الشيوعيين ليست انقلابا فى السلطة ، إنها عملية اجتماعية ، تقوم فيها الجماهير المتمردة والمنظمة على النسق اللاسلطوى ، بهدم بنية المجتمع القديم بما فيه السلطة القمعية ، لتبنى على أنقاضه ، مجتمعها الجديد ، وهى عملية تمارس فيها جماهير المقهورين سلطتها الجماعية ، وتبنى تنظيمها من أسفل إلى أعلى ، لتصادر الثروة من حائزيها لتحولها إلى الملكية الجماعية ، وتشل آله العنف بالعصيان المدنى الشامل ، وفى هذه العملية يقوم اللاسلطويون الشيوعيون بدور الإرشاد دون وصاية ولا إدعاء لتمثيل المقهورين أو قيادتهم ، مركزين على فضح الديماجوجين و التسلطيين للجماهير ، ومنعهم من الانحراف بالثورة عن الطريق اللاسلطوى . حتى تكتمل عملية الهدم والبناء ، لينتهى دورهم كجماعة ثورية .
ذكر إنجلز فى إحدى كتاباته أن الثورة هى أكثر الأعمال تسلطا وهذا بلا شك أمر بديهى ، فهى عمل تسلطى وقمعى ، إلا أنه يتم من السواد من الناس فى الحالة اللاسلطوية الشيوعية ، من الجماهير المنظمة وبوعيها غير الزائف ، وليس من قبل نخبة تتحدث باسم الجماهير ، وتدعى تمثيلها ، وتمارس وصايتها عليها ، كما فى النمط التسلطى للثورة . فهناك تفسيران للمرحلة الانتقالية اللازمة ، ما بين المجتمع الرأسمالى والمجتمع الشيوعى.
أولهما السلطوى الذى يفترض أنها دولة ديكتاتورية البروليتاريا الذى يمثلها الحزب الطليعى ، والذى تتركز في يدها كل مصادر السلطة ، والتى لابد وأن تؤول لبيروقراطية شمولية كما حدث فى الدول التى ادعت الاشتراكية .
ثانيهما اللاسلطوي الجماعى الذى يفترض أن المرحلة الانتقالية هى الثورة نفسها باعتبارها عملية تاريخية ممتدة وليست مجرد الانقلاب فى السلطة ، والتى تمارس فيها الجماهير المنظمة سلطتها الجماعية على الأقلية المتسلطة ، التى لا يمكن أن تسلم بامتيازاتها و بسلطاتها ومصادر سلطاتها دون هذا التسلط الجماهيرى الجماعى ، إلا أنه تسلط موقوت بعملية سحب تلك السلطات والامتيازات ، بمصادرة أو شل مصادرها ، و بشل قدرتها على مقاومة الثورة عبر الفعل الجماعى للجماهير الواعية ، وحماية بناء المجتمع الجديد الذى ما إن يتم بناءه ، تنتهى كل سلطة قمعية منفصلة ومتعالية على الجماهير.
وفى الطريق الطويل من نقطة البداية لنقطة النهاية الثورية ،على الطلائع اللاسلطوية أداء مهمتها التاريخية ليس بمجرد إنتاج الوعى ونشره ، ولكن بالانخراط فى كل نشاط يدفع المقهورين القابلين للتنظيم ليفكروا على نحو مختلف ، يدفعهم للتعرف على وعى بديل و لتنظيم أنفسهم على نحو لاسلطوى ، هناك الكثير من النضالات الصغيرة ، التى لابد وأن تتعلم منها الجماهير الثقة بقدرتها الجماعية على الفعل ، وعدم الثقة فى الأيديولوجيات السلطوية التى لا يجب التهاون معها على أى نحو.
إن الطريق اللاسلطوي للثورة ، هو الطريق الذى يشل آلة العنف عندما تواجه الكتلة المتراصة والصلبة لجماهير مصممة على تحقيق أهدافها ، بالعصيان المدنى الشامل و أشكال الاحتجاج السلمى ، وهو ما لا يمكن أمامه أن تفعل آلة العنف فعلها طالما مارسته غالبية المقهورين على نحو متماسك ومنظم ، فبالعصيان المدنى الشامل يتكسر الضلع الثانى من أضلاع السلطة ، والذى يحمى الضلع الأول ، وهو الثروة التى يسهل بعد انهيار أبواق دعايتها ، وشلل حماتها المسلحين مصادرتها. ويكتسب هذا العصيان قيمته فحسب عندما يصنعه المقهورين المرتبطين بأكثر وسائل الإنتاج تقدما .
هذه هى القواعد العامة التى تحكم الممارسة الثورية للاسلطوية، أمميتها الجذرية تمنعها من الاعتراف بالحدود القومية و أوهام التحرر القومى ، وثوريتها الجذرية تمنعها من التعلق بأوهام البرلمانية والإصلاحية والنقابية ، و تحرريتها الجذرية تجعلها ترفض كل تسلط و وصاية على البشر ، و احترامها الجذرى لتفرد الإنسان يجعلها ترفض جذريا سحقه وتذويبه وقمعه وقولبته وبرمجته وقهره ، و شيوعيتها الجذرية تجعلها ترفض الأنانية البورجوزاية ، وتمحور الفرد حول ذاته ومصالحه ، التى هى جوهر المثل السفلى الإنسانية ، ومن ثم تمارس لب المثل العليا الإنسانية القائمة على الجماعية والغيرية بغير ادعاءات . إنها طراز فريد من الحركات الثورية ، ترفض جذريا كل أشكال التلوث البورجوازى ، وتتسق أخلاقياتها وممارستها مع مجتمع المستقبل اللاسلطوي. فتشكل فى المجتمع الحالى أنويه مجتمع المستقبل ، فى علاقاتها وممارستها.
يبقى أن أشير إلى أن البعض من ممارسات بعض اللاسلطويين ، ومواقفهم إزاء الأخلاق لا ترضينى شخصيا ، كما أنى أرفض الفهم المغلوط لقضية الأخلاق من قبل بعض اللاسلطويون ، الأخلاق ضرورة اجتماعية ، ومادمنا نتحدث عن بناء مجتمع ، فلابد أن نفهم أنه لاغنى لهذا المجتمع عن الأخلاق لتحافظ على العلاقات بين أفراده ، فالحرية الفردية المطلقة إمكانية غير متاحة إلا نظريا ، لأن الإنسان حيوان اجتماعى نشأ أصلا عن علاقة اجتماعية بين رجل وامرأة ، والمجتمعات البشرية هى خلف طبيعى لسلف من قطعان من أشباه البشر ، ومن ثم فالأخلاق ضرورة إنسانية أيضا طورتها تلك القطعان كضرورة كى يستمر القطيع . اللاسلطوية الشيوعية لا تقوم فقط على أساس الضرورة المادية لتطور المجتمعات ، وتحقيق الحرية و الإخاء والمساواة فى حدودها القصوى ، وإنما تقوم كذلك على قيم أخلاقية ترفض استغلال الإنسان وقهره وخداعه ، ولا يمكن أن تنفصل الوسائل عن الغايات ، ولا يمكن أن تمارس القهر والاستغلال والخداع ، وتدعى أنك تناضل ضدهم ، وكسر ضلع الوعى البورجوازى يستلزم تكسير قيمه الفردية والأنانية والاستهلاكية والنفعية ، ليس بمجرد الشعارات ، ولكن بالممارسة الفعلية للبديل الثورى.
يبقى أن أشير إلى أن الفهم الملتبس لقضية الحرية ، يجعل العديد من اللاسلطويين يرفعون شعارات زائفة باسم الحرية ، تتناقض جوهريا مع هدف التحرر ، وتخدم استمرار احتكار السلطة ولا تقاومها إن لم ترسخها ، فيرفع البعض شعار حرية تعاطى المخدرات ومن ثم وبالضرورة الاتجار فيها بدلا من أن يناضلوا ضد الخمور والتدخين مثلا ، باعتبارها عوامل مدمرة لذات الفرد ومستعبدة لحريته وإرادته الحرة ، فأى حرية فى أن تكون مدمن للمخدرات أو الخمور ،ومن ثم يمكن السيطرة عليك بسبب سيطرة احتياجك لها عليك ، ولاشك أن هذه اللاسلطوية الزائفة تهدف لسيطرة تجار المخدرات على المدمنين بما يتعارض مع الهدف اللاسلطوي ، فاللاسلطوية الشيوعية يجب أن تقف ضد حرية تدمير الذات التى يروج لها البعض ، فالحرية المطلقة هى عبودية من نوع جديد للرغبة واللذة و لا تعنى تحرر حقيقى للإنسان .
خيالية القبول بالواقع ، وواقعية السعى لتغييره
سيتهمنا الكثيرين بالخيالية ، وقد نتشكك نحن أيضا فى مدى واقعيتنا ، فما نسعى إليه من أهداف يبدو بعيد المنال ، إن لم يبدو مستحيلا ، وفى الطريق إليها تتراص العقبات والعراقيل ، ومن ثم تبدو جبال الواقع عصية على التدمير ، ومن هنا يترسخ فى العقول منطق الرضوخ للواقع ، والقبول بالممكن والمتاح .إنه منطق لا يعترف بأن العمل الدؤوب الذى لا يعرف الكلل و اليأس ، يرى أن الجبال العالية من الممكن تدميرها بالتفتيت المستمر والمتواتر ، وهم لا يفهمون أن قطرات المطر الضعيفة حين تتساقط بانتظام مستمر تؤدى لتفتيت الصخور القوية ، وهو ما لا يمكن أن يفعله الجلوس تحت سفحها فى انتظار معجزة تفتيتها .
فأيهما أكثر خيالية حين نعرف أمراضنا، وحين نعرف أسبابها وعلاجها ، وحين نعرف أننا عاجزين حاليا عن العلاج ، نلجأ للمسكنات أو أن ننتظر الموت ، أو أن نحاول جاهدين الوصول للعلاج حتى لو استغرق هذا وقتا وجهدا ، ونحن ننتظر الحياة .
فأيهما الأكثر خيالية أن نظن أن الرأسمالية والأيديولوجيات السلطوية المختلفة المعبرة عنها ، ولأنها تبدو واقعية فى الظاهر و لأول وهلة، كفيلة بتحرير البشرية ومنحها العدالة والسلام والأمن والحرية والرفاهية ، أو أنها قادرة على إنقاذ البشرية من أخطار مؤكدة تسببت فيها الرأسمالية فى تطوراتها الأخيرة ، وأصبحت عاجزة على أن تقدم حلولها الإصلاحية تسكينا لهذه الأخطار . أم أن نسعى جاهدين لقلب هذا الواقع رأسا على عقب ، وهى العملية التى أصبحت ملحة للغاية .
فواقعنا المعاصر يواجه ظرفا محرجا يضعه أمام خيارين لا ثالث لهما ، إما اللاسلطوية الشيوعية أو البربرية . فالتهميش المطرد و الواسع النطاق لقطاعات ساحقة من البشرية ، والاتساع المطرد فى مستويات البطالة الهيكلية ، وتدمير البيئة مما يهدد الحياة على كوكب الأرض ، و التفاوتات المتسعة باطراد بين مستويات المعيشة والثروة والتقدم ، تقسم البشر لقسمين ، قلة مترفة وغالبية بائسة ، فضلا عن السيطرة غير المسبوقة لوسائل الميديا الحديثة بما تروجه من ثقافة استهلاكية وسطحية ، والتى تم بها غسل وقولبة وتخدير وتسطيح وتشويه عقول الجماهير و إدراكها ، مما أدى لاستفحال الطابع المبتذل للديمقراطية للبرلمانية ، التى تحولت لمهرجان إعلانى لا غير، نازعة آخر أثواب احترامها . فى نفس الوقت و مع كل هذه الظروف السيئة تتصاعد الفاشيات المختلفة ، و الأصوليات الدينية ، والحركات العنصرية ، وينطوى اليسار السلطوى بكل تلاوينه الإصلاحية والثورية ، مستسلما للرأسمالية الفجة والوحشية ، مستسلما لواقع عجز عن فهمه وتغييره ، متشبثا بواقعية زائفة ، هى فى حقيقتها الخيالية نفسها فى ثوب الواقعية . ذلك لأنه لا يرى إلا هدف السلطة التى أصبحت بعيدة المنال ، والتى أمام مقتضياتها يركع فى خشوع لعلها تقبله فى معيتها حتى ولو حساب مبادئه ، متنازلا باستمرار أمام مذبحها عن كل الذى كان يناضل من أجله .محتجا بالواقعية والمتاح والممكن .
أن من ينظرون للواقع بهذه الطريقة قصيرة النظر ، لا يفهمون كيف يتغير الواقع ، الذى لا يتغير فقط تدريجيا و على نحو كمي و غير محسوس ، ولكنه يتغير نوعيا أيضا وعلى نحو فجائى وملموس ، وبما لا يمكن أن يتوقعه أحد . ولما كان هذا التغير يستند لأسباب موضوعية كل ما علينا أن نكون على استعداد كامل لمواجهتها لأنه لا يد لأحد فيها ، وظروف ذاتية تحتاج لجهد بشرى من نوع خاص هو ما يمكن أن نؤديه ، وفق شروطه لو أردنا النجاح ، فأن كل ما علينا أن نؤدى عملنا لنصبح على استعداد للحظة التغيير .
فمن يستندون لواقعيتهم المزعومة مفضلين الممكن والمتاح رغم زيفه وعجزه ، لا يفهمون كيف يتغير التاريخ على نحو جذرى ، وعلى نحو لا يدركه حتى الحالمون .
فمن كان يتوقع أو يدرك أو حتى يحلم قبل عام571 ميلادية ، أنه وفى مدينة صحراوية ، ولد صبى يتيم ، أصبح راعى غنم فقير ثم تاجرا فيما بعد ، وفى الأربعين من عمره صار نبيا ، و مؤسسا لديانة كبرى ، و مكافحا بيئة قاومته بشراسة وعنف على مدى أكثر من عشرين عام ، وفى الثالثة والخمسين مؤسسا لدولة ، ولم يكن عام 640 قد جاء بعد حتى أصبحت دولته أساس إمبراطورية عظمى على أنقاض إمبراطوريتين كبيرتين خلال خمسة عشر سنة من تأسيسها ، أى خلال سبعين عاما فحسب من مولده ، و لتكون خلافته حضارة عظمى هى الحضارة الإسلامية ، والتى تأسست نواتها على الديانة التى أسسها.
من كان يتوقع أو يدرك أو حتى يحلم ، قبل عام 1848 و حين صدر البيان الشيوعى ، ليفتتح الصفحة الماركسية فى التاريخ البشرى ، بكل ما تعنيه الماركسية من انقلاب جذرى سواء فى العلوم الاجتماعية أو الحركات السياسية ، أن يأتى عام 1917 ليرفع العمال الروس رايتها فى ثورة من أكبر الثورات فى العالم ، هؤلاء العمال الذين كان آبائهم و أجدادهم مجرد أقنان حتى عام 1861 ، فى ظل دولة كانت الأسوأ فى أوربا من حيث الاستبداد والرجعية والتخلف . فهل تعامل الثوريين الروس فى أوائل القرن العشرين ، وحتى اسقطوا العرش القيصرى العتيد فى 1917، بنفس منطق الواقعية الزائف، أم بمنطق مختلف ساعدهم على الانتصار ، بصرف النظر على نوعية الانتصار ، ولم تكن الثورة الروسية فقط من حملت راية الماركسية فقد حملتها ثورات وحركات كثيرة خلال القرن العشرين ، ولم تسقط الماركسية بسقوط الدول التى حملت رايتها ، وإنما سقط تفسيرها السلطوى واللينينى فحسب ، أما ما رسخه الجهد الأسطورى للماركسية و النضال الملحمى للماركسيين سواء فى ميدان العلوم الاجتماعية والحركات الثورية ، فما زال قويا ومؤثرا و مواليا نجاحه. ومازال الحلم اللاسلطوى الشيوعى قويا برغم ما يواجهه من صعوبات . والشيوعية اللاسلطوية وأن كانت توارت بفعل الإصلاحية و اللينينية و الفاشية ، فقد بعثت من موتها من جديد ، لتواجه واقعا ينتظرها بالفعل ، و ما عليها إلا أن تتعلم من التاريخ كيف يتغير لتغيره ، وما هو دورها بالفعل لإحداث هذا التغيير .
أصبح اللاسلطويون لديهم الآن إمكانية مذهلة لكسر احتكار الرأسمالية لوسائل إنتاج ونشر الوعى ، و ذلك عبر ثورة الاتصالات الحديثة و الإنترنت ، و التى تزداد إمكانيتها المذهلة باطراد سريع ، وتنتشر بأسرع مما انتشرت أى وسائل أخرى من وسائل الاتصال والمعرفة ، والتى سيكون لها أبلغ الأثر على توحيد اللاسلطويون الشيوعيين عبر العالم وانتشار أفكارهم لو أجادوا استخدامها بعد سنوات قليلة عندما تصبح الوسيلة الأساسية لنشر المعرفة والمعلومات على نحو رخيص و ديمقراطى وسهل . و لو ربطوا بين أفكارهم وقضايا الواقع الساخنة ، وطرحوا رؤيتهم كحل جذرى لتلك القضايا على نحو لا يعرف المساومة .ففى كل قضية من البطالة إلى البيئة ، لا يجوز إلا طرح البرنامج اللاسلطوى كحل وحيد لكل القضايا ، وفى نفس الوقت فضح كل الحلول الإصلاحية والسلطوية ، وكشف الأوهام البرلمانية ، وفى كل موقف علينا أن نوضح أن الحل بيد الجماهير المنظمة وصاحبة المصلحة ، لا بيد أى حكومة أو منظمة ما ، و لا بيد أى سلطة أو حزب فلسنا بحاجة لزعماء ملهمين كما لسنا بحاجة للسادة والألهة ، فعلينا أن نثق بمبادرة الناس وأن نشجعها ، فلم يعلم أحد الجماهير فى روسيا أن يشكلوا السوفيتات كشكل لسلطتهم الجماعية قبل أن تتبقرط بواسطة البلاشفة ، الذين حولوها كشكل لممارسة سلطتهم الديكتاتورية .ولم يعلم أحد العمال الإيطاليين أن يحتلوا المصانع فى 1920 ، ولم يعلم أحد عمال باريس أن يصنعوا الكوميونة فى 1871 بقدر ما تعلم ماركس نفسه من تجربة الكوميونة معالم الثورة القادمة ، فالثورة هى علاقة جدلية بين حركة الجماهير العفوية ، والأفكار الثورية ، و دور اللاسلطويون هو التعبير عن هذه الأفكار ونشرها بين الجماهير وتقدم صفوفها فى كل عمل احتجاجى أو ثورى.
تسلم ايدك بجد :)
ردحذفهى المدونة وقفت ليه ؟؟.. يا ريت تستمروا
Really thank you
ردحذف