ما هى الأناركية الشيوعية؟
الجزء الثانى: ليس العنوان و إنما المضمون هو ما يهم
واين برايس
ترجمة : تامر موافي
مترجم عن Wayne Price: What is Anarchist-Communism? Part 2 – anarkismo.net
فى القرن التالى لكتابات كروبوتكين و ماركس كان ثمة تزايدا هائلا فى الإنتاجية .. طوال آلاف من السنين كان على 95% إلى 98% من البشر أن ينخرطوا فى إنتاج الغذاء بشكل أو بآخر .. و لكن اليوم إنعكست النسبة ففى الولايات المتحدة مثلا يعمل 2% إلى 3% فقط فى الزراعة .. بالمثل بالنسبة للمصانع المميكنة يؤكد البعض أن بالإمكان إنتاج ما يكفى لحياة مريحة لكل إنسان .. يمكن لعدد من يتطوعون للعمل أن يكون أكبر مما هو مطلوب للوظائف الضرورية .. يمكن لإقتصاد صناعى تعاونى و مخطط ديموقراطيا أن يمنح كل إنسان الكثير من وقت الفراغ .. هذا أساسى لأى مجتمع ينبنى على الديموقراطية من أسفل إلى أعلى .. فى جميع الثورات السابقة، بمجرد إنقضاء الإضطرابات عادت الجماهير إلى طاحونة العمل اليومى فيما توافر لقلة فقط الوقت لإدارة الأمور فعليا .. مع توافر وقت الفراغ للجميع فإنهم سيكونون أحرارا بما يكفى لأن يديروا ذاتيا أماكن السكن و العمل و المجتمع فى مجمله.
بإختصار توجد كافة الشروط التكنولوجية اللازمة للشيوعية التحررية الكاملة التى أسماها ماركس "المرحلة العليا للشيوعية" .. و من ثم فقد جادل البعض بأنه من الممكن التقدم فورا إلى الشيوعية الكاملة بمجرد أن تتحقق الشروط الإجتماعية و السياسية .. ولكننى لا أعتقد أن هذا صحيح.
السبب الوحيد هو أن التكنولوجيا الإنتاجية التى نملكها هى تكنولوجيا خلقتها الرأسمالية و لأجل الرأسمالية و هى عالية الإنتاجية فقط وفق شروط إنجاز الأهداف الرأسمالية أى مراكمة رأس المال .. وفق شروط أخرى هى فى الواقع تهدر قدرا هائلا من الموارد و هى مدمرة و ملوثة للبيئة مما يعرض عديد من أنواع الكائنات الحية للإنقراض و هى تستنفذ الموارد غير المتجددة و تختزن القنابل النووية و تتسبب فى الإحتباس الحرارى. وفق الشروط الإنسانية تم تنمية هذه التكنولوجيا عمدا لتحجيم العمال و لتحول بيننا و بين التفكير و لتحافظ على الهرمية الإجتماعية .. لذا ففى أعقاب الثورة سيكون على العمال إعادة بناء التكنولوجيا الصناعية لجعلها قابلة للإستمرار دون إلحاق الضرر بالبيئة و للتخلص من الإنقسام بين من يعطون الأوامر و من يتلقونها .. ينبغى لنا أن نخلق تكنولوجيا جديدة منتجة بشكل يحفز الإبداع الإنسانى و التناغم البيئى.
الحاجة إلى إنتاج عالمى متزايد
أيضا و بالرغم من أن أمريكا الشمالية و أوروبا الغربية و اليابان و قليل من الأماكن الأخرى لديها الكثير من التكنولوجيا الحديثة إلا أن هذا ليس هو حال غالبية العالم .. ما يسمى بالعالم الثالث ليس تصنيعيا بالقدر الكافى أو المتوازن حاليا .. هذه البلدان التى يتم إفقارها و إستغلالها لا تمتلك من الثروة أو الصناعة ما يكفى أن تتجه حتى إلى المرحلة الأدنى للشيوعية (التى يسميها لينين مرحلة الإشتراكية) ناهيك عن أن تحقق الشيوعية الكاملة .. يمكن للعمال و الفلاحين أن ينتزعوا السلطة فى بلدانهم و ينشئون نظاما من المجالس العمالية و المجالس الشعبية و لكن لتدعيم مسيرتهم إلى الشيوعية سيكون عليهم إشعال الثورة فى البلدان الصناعية الإستعمارية حتى يحصلوا على معونة شعوبها.
أنا لا أتفق مع الشيوعيين المجالسيين و غيرهم من الماركسيين الذين يدعون أن الأمم المقموعة يمكنها فقط القيام بثورات برجوازية بل إنى أعتقد على العكس من ذلك أن عمال و فلاحى هذه الأمم يمكنهم الإطاحة بالبرجوازية المحلية ثم ينشرون الثورة إلى البلدان الصناعية التى ستساعدهم فى التنمية وصولا إلى الشيوعية .. هذه الرؤية تناقض مفهوم ستالين عن بناء الإشتراكية فى بلد واحد لأن قدرا كبيرا من المساعدة من قبل الأجزاء الصناعية من الكوكب ستحتاجه تنمية إفريقيا و آسيا و أمريكا اللاتينية بشكل إنسانى و ديموقراطى و متوازن بيئيا.
و بالتالى فإن القول بأن الشروط التكنولوجية اللازمة للشيوعية الكاملة موجودة هو صحيح بالتأكيد و لكنه صحيح ضمنيا .. فالإنسانية تمتلك المعرفة التقنية و المهارات الضرورية لبناء عالم من الوفرة يتيح وقت فراغ للجميع و بشكل متوازن مع العالم الطبيعى و لكن الأمر سيتطلب كثيرا من العمل بعد الثورة لخلق هذا العالم.
مراحل الشيوعية
لهذه الأسباب تصور الشيوعيون التحرريون دائما أن يتحقق التغيير نحو مجتمع شيوعى كامل عبر فترة زمنية و بشكل مرحلى فى أعقاب الثورة .. إقترح ماركس المرحلتين العليا و الدنيا للشيوعية و عبر باكونين عن الشيئ نفسه بشكل ضمنى .. حتى كروبوتكين قد إقترح نوعا من المرحلية للشيوعية الكاملة .. فقد أوضح كروبوتكين أنه بعد الثورة مباشرة سيتعين على أفراد الطبقة العاملة البالغين أن يعملوا لنصف يوم (5 ساعات) حتى يمكن توفير قدر مناسب من الغذاء و الكساء و المأوى .. غالبية السلع ستكون كمياتها محدودة و من ثم ينبغى أن يدير المجتمع عملية توزيعها .. بمرور الوقت و مع تحسن الإنتاجية سيتطور الإقتصاد إلى الشيوعية الكاملة .. ستصبح معظم السلع وفيرة و يمكن للناس أن تحصل عليها من على أرفف مخازن المجتمع .. و سيمارس العمل بسبب الوعى الإجتماعى و الرغبة فى النشاط و لكن هذا كله لن يكون ممكنا لحظيا.
ثمة عامل آخر .. فالأقرب إلى التصور أن يقوم بالثورة جبهة متحدة من مجموعات سياسية متعددة مناهضة للرأسمالية .. فأمريكا الشمالية و أوروبا على سبيل المثال أضخم و أكثر تعقيدا من أن تحوذ منظمة ثورية واحدة الأفضل بين الأفكار و المناضلين .. سيكون على هذه المجموعات أن تعمل سويا و لكن بعضهم فقط سيكونون من الأناركيين الشيوعيين .. فإذا ما إستبعدنا السلطويين المتمسكين بنمط الدولة فإننا على أغلب الظن سنتحالف مع التشاركيين و الأناركيين غير الشيوعيين و الإشتراكيين الديموقراطيين الثوريين و أنواع مختلفة من الخضر إلى آخره .. و لا يمكننا أن نرغم كل هؤلاء على العيش فى إطار الأناركية الشيوعية .. فالشيوعية التحررية (الإجبارية) هى تناقض فى المصطلحات! .. قد تقرر الغالبية فى إقليم ما أن تعيش وفق الأناركية الشيوعية و لكن أقاليم مجاورة قد تعتمد نمطا تشاركيا (الإقتصاد التشاركى Participatory Economics) .. طالما لم يتم إستغلال العمال فإن الأناركيون الشيوعيون لن يبدأوا حربا أهلية داخل الثورة .. بشكل تجريبى سيتم إختبار مقاربات مختلفة فى أقاليم مختلفة و سوف نتعلم من بعضنا البعض.
كتب مالاتيستا [1984]، "إن الشيوعية المفروضة قسرا ستكون أكثر ما يمكن لعقل الإنسان أن يتصوره من أشكال الطغيان بشاعة .. و سوف تكون الشيوعية الطوعية و الحرة مدعاة للسخرية إن لم يمتلك الإنسان حق و إمكانية أن يعيش فى نظام مختلف سواء كان جمعويا أو تعاونيا أو إنعزاليا كيفما يشاء ، دائما بشرط ألا يكون هناك قمع أو إستغلال للآخرين" [ص 103] .. و توقع أن ينتصر فى النهاية نوع من الأناركية الشيوعية و لكنه شعر بأن هذا قد يتطلب وقتا طويلا لتحقيقه فى كل مكان.
هل ينبغى أن نعتبر أنفسنا شيوعيين؟
الأناركية الشيوعية هى هدف عملى مع التكنولوجيا الحديثة سواء كان علينا أن نمر خلال مراحل و حلول وسط مختلفة أو لم يكن علينا ذلك .. و لكن هذا لا يجيب السؤال: هل ينبغى أن نعتبر أنفسنا شيوعيين؟ .. نحن فى النهاية معادون لكل دولة شيوعية قائمة أو كانت قائمة فى أى وقت و نحن معادون لكل حزب شيوعى .. و لكننا لا يمكننا أن نعتبر أنفسنا معادون للشيوعية حيث يعتبر هذا عادة قبولا بالأمبريالية الغربية و بديموقراطيتها المحدودة (إلى حد كبير) و حكمها من قبل أقلية طبقية. نحن معادون لهذا الحكم الطبقى أكثر كثيرا مما كانت الأحزاب الشيوعية معادية له. و لكننا نقبل بأهداف كروبوتكين و كارل ماركس المتمثلة فى مجتمع بلا طبقية و بلا دولة ينظمه مبدأ، "من كل حسب قدراته إلى كل حسب حاجاته" .. بهذا المعنى نحن حقا شيوعيون أصلاء.
التيار العام للأناركية التاريخية كان هو الأناركية الشيوعية و يمكننا بل أعتقد أنه ينبغى علينا أن نحدد هويتنا بالإنتماء إلى التراث الشيوعى فى الأناركية و الذى يمتد إلى باكونين (كهدف) و إلى كروبوتكين (كعنوان) و إلى مالاتيستا و إيما جولدمان و تقريبا كل أناركى فى عصرهم .. كان ثمة صراع بين هؤلاء الأناركيين الذين دعوا أنفسهم بالأناركيين الشيوعيين و بين هؤلاء الذين دعوا أنفسهم بالأناركيين النقابيين (السندكاليين) و لكنه لم يكن بينهم خلاف من حيث المبدأ.. كان الأناركيون الشيوعيون يخشون أن يذيب الأناركيون النقابيون أنفسهم فى الحركة النقابية الثورية و كان الأناركيون النقابيون يخشون أن يقلل الأناركيون الشيوعيون من شأن مركزية و أهمية التنظيم العمالى .. و لكن الأناركيين الشيوعيين قد قبلوا فى معظمهم بحاجة الطبقة العاملة إلى التنظيم الذاتى و بشكل خاص حاجتها إلى الإتحادات العمالية فى حين شاركهم الأناركيون النقابيون هدف الشيوعية التحررية.
إتفاقنا فى العصر الحديث مع الأناركبة الشيوعية كهدف للطبقة العاملة ينبغى بالتأكيد أن ينص عليه فى كتاباتنا و برامجنا و لكن هل ينبغى أن يبرز النص عليه فى منشوراتنا و أسماء منظماتنا؟
إجابتى هى أن هذا أمر يعتمد على عوامل أخرى .. ففى بعض البلدان لمصطلح الشيوعية مفهوم إيجابى لدى معظم المناضلين من العمال و هذا عامة نتيجة للتضحية التاريخية بالنفس و لكفاح كوادر الأحزاب الشيوعية بغض النظر عن مظاهر ضعفهم .. هذا هو الحال فيما يبدو فى جنوب إفريقيا على سبيل المثال حيث أسس زملاء لنا فى الفكر جبهة زابالاتسا الأناركية الشيوعية.
و لكن للشيوعية فى بلدان أخرى مفهوم سلبى للغاية .. ليس هذا فقط نتيجة للدعاية البرجوازية السلبية و لكنه أيضا نتيجة 75 عاما من إرتباط هذا المفهوم بالشمولية الحقيقية للإتحاد السوفيتى .. لقد دعا هذا النظام نفسه شيوعيا و كذلك فعل تابعوه و مقلدوه فى أوروبا الشرقية و الصين .. إلخ .. و فى بلدان أخرى يعرف الشيوعيون بتقديسهم إلى حد العبادة للإتحاد السوفيتى و سيطرتهم ثقيلة الوطأة على أتباعهم و كذلك لإصلاحيتهم الإنتهازية .. و أعتقد أنه لهذه الأسباب قد إستبدل الإتحاد الأناركى الشيوعى فى المملكة المتحدة اسمه إلى الإتحاد الأناركى .. و من الواضح أن حركة التضامن العمالى الأيرلندية لا يتضمن اسمها كلمة "شيوعية" .. مما يعنى أن غياب لفظ الشيوعية من أسماء منظماتنا لا يعنى التخلى عن التراث الشيوعى.
أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية تنتمى إلى النوع الثانى و من ثم فإن إضافة لفظ شيوعية إلى اسمنا يخلق حاجزا لا داعى له بيننا و بين معظم العمال الأمريكيين فهذا يجعل من الصعب تمييز أنفسنا عن التيارات السلطوية التى تدعو نفسها بالشيوعية و لذا فإننى أصوت ضد هذا الإستخدام خاصة إذا ما أتيح لنا فى يوم من الأيام تكوين إتحاد يمتد فى أمريكا الشمالية كلها.
يستخدم وصف "الإشتراكية التحررية" عادة بين الأناركيين لتمييز أنفسنا عن الإنعزاليين و التحرريين المؤيدين للرأسمالية .. أنا أفضل مصطلح "الأناركى الإشتراكى" و يتفق مع ذلك مالاتيستا فيقول "لقد دعونا أنفسنا دائما بالأناركيين الإشتراكيين"[ص 143] .. الإشتراكية هى مصطلح أقل تحديدا من الشيوعية .. و هى تعنى بالنسبة للبعض الإصلاحية نتيجة إستخدامها على نطاق واسع من قبل الإشتراكيين الديموقراطيين و كذلك الشيوعيين .. و لكنها على الأقل لا تعنى ضمنيا الشمولية و القتل الجماعى و هى المشكلة الحقيقية .. فى المقابل دعا التروتسكيون أنفسهم بالإشتراكيين الثوريين لتمييز أنفسهم عن الستالينيين و كثير من غير التروتسكيين يستخدمون بطاقة الإشتراكيين الثوريين أيضا .. و عبر أجيال إستخدمت " الإشتراكية التحررية" أيضا لتعنى الأناركية.
تفضيلى لمسمى "الأناركية الإشتراكية" و " الإشتراكية التحررية" على "الأناركية الشيوعية" هو تفضيل شخصى و قد يمثل رؤية الأقلية بين الأناركيون الشيوعيون فى الولايات المتحدة .. على أى حال هى ليست مسألة مبدأ فالمحتوى لا العنوان هو ما يهم أكثر.
References
Malatesta, Errico (1984). Errico Malatesta; His life and ideas (Vernon Richards, ed.). London: Freedom Press.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.